تشكل قضية تصفية الاستعمار أحد التحديات الأساسية التي تواجهها عادة البلدان حديثة الاستقلال، ولا يخرج المغرب المعاصر عن هذا السياق الذي ووجه فيه منذ الاستقلال السياسي لعام 1956 ببقاء الأقاليم الجنوبية تحت السيادة الإسبانية وعدم اكتمال مهام التحرير، وقد اتبع المغرب في سبيل تحريرها القنوات الدبلوماسية رغم معارضة جزء كبير من جيش التحرير المغربي الذي فضل غداة الاستقلال مواصلة حرب التحرير حتى خروج آخر جندي من جنود الاستعمار الإسباني.
وكان التوجه الدبلوماسي ملمحا أساسيا في تعامل الدولة المغربية مع هذا الملف الذي تُوِّج في بداياته بالمسيرة الخضراء عام 1975 وما رافقها من الاستعادة السلمية للأراضي المغربية وبروز ما يسمى الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب إلى مسرح الأحداث، وهي الحركة المعروفة اختصارا بالبوليزاريو Polisario والمقيمة في الجزائر. وتحظى بدعم كبير من قبل قوى دولية وإقليمية أهمها: الجزائر وإسبانيا، ومقابل ذلك تلقى المغرب بدوره المساندة المادية والمعنوية ممن كانوا دائما أصدقاءه دولا ومنظمات. وعلى مدى عقود طويلة ظلت هذه القضية الوطنية جرحا موجعا وراعفا يقف أمام استكمال مسيرة البلد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
وفي مسارها الطويل والشائك، عرفت قضية الصحراء بصفتها القضية الوطنية الأولى جزرا ومدا وتحولات جوهرية ومفصلية ارتبطت بطريقة طرح الملف على المستوى الداخلي والخارجي، علاوة على السياق الموضوعي المرتبط بالتحولات الإقليمية والدولية. ويمكن الوقوف عند بعض اللحظات الأساسية في هذه المسيرة الطويلة والمعقدة.
تشكل لحظة إعلان المغرب موافقته على إجراء استفتاء لتقرير مصير الصحراء عام 1980 من نيروبي بمناسبة انعقاد قمة منظمة الوحدة الإفريقية، وانعكاسات ذلك على المستوى الداخلي متجليا في رفض بعض الأحزاب المغربية للقرار وبروز بوادر انقسام داخلي تبعا لذلك، ناهيك عن المسار الطويل الذي اتخذه الإعداد للاستفتاء وتأثير انسحاب المغرب من المنظمة عام 1984.
وأما اللحظة الثانية فيمكن التأشير إليها بمجيئ حكومة التناوب بقيادة الراحل عبد الرحمن اليوسفي الذي يحظى وحزبه ذي الأصول الاشتراكية والمتمرس في المعارضة على مدى عقود باحترام وثقة ووضعية اعتبارية لدى دول وأحزاب ذات التوجه السياسي المشابه، وقد ساهمت حكومة التناوب والمنظمات الموازية على الترويج لموقف المغرب من القضية مما حمل مجموعة من الدول والأحزاب الأوروبية خاصة بتبني موقف المغرب أو باتخاذ موقف حيادي تجاه الصراع، ولا شك أن فترة العهد الجديد بما حملته من آمال جديدة وانفتاح سياسي واقتصادي واجتماعي مغاير لما كانت عليه البلاد في سنوات وعقود سابقة قد أسهمت في تقوية موقف المغرب في مقابل إضعاف موقف الطرف الآخر المُمثل في البوليساريوا وداعمتها الجزائر.
ولا يمكن بالمرة إغفال حدث عودة المغرب إلى “الاتحاد الإفريقي” منذ ثلاثة سنوات بعد غياب دام اثنين وثلاثين سنة، ولم تكن هذه العودة سوى تتويجا لمسار طويل للدبلوماسية الخارجية المرتكزة على تدعيم العلاقات الإفريقية سياسيا واقتصاديا والترويج للمقترح المغربي الجديد القائم على الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية في ظل سيادة مغربية، وكان من نتائج هذه الاختيارات والتوجهات التحول اللافت في مواقف أربعين دولة إفريقية سحبت اعترافها بجبهة البوليساريو في موقف لم تعهده القضية الوطنية الأولى منذ بدياتها.
واستمرارا لهذه اللحظات الكمية والنوعية في آن تبزغ في الآونة الأخيرة مجموعة من الأحداث التي تصب جميعها في صالح الموقف المغربي من الصحراء وتشكل صفعة قوية وانتكاسة للأطراف المناوئة للوحدة الوطنية، وتظهر هذه الأحداث ذات الدلالات العميقة في قرار أعلى سلطة قضائية في إسبانيا: المحكمة العليا الإسبانية التي قضت برفض منح الجنسية لسيدة ولدت بالصحراء المغربية عام 1973، وحظرت استخدام الأعلام غير الرسمية بما فيها علم البوليساريو بشكل دائم أو ومؤقت داخل المباني الحكومية الإسبانية وخارجها، ولا تتوقف أهمية هذه الاختيارات في هذه المواقف والإجراءات، بل تتعدى ذلك إلى التفسيرات المرفقة بهذه القرارات وإيحاءاتها وانعكاس ذلك على مصير البوليساريو والقضية الوطنية على السواء.
ففي تفسير المحكمة العليا لهذه الأحكام اعتبرت أن الصحراء لم تكن تمثل أبدا جزءا من إسبانيا، فيما يحيل رفض استعمال علم البوليساريو إلى عدم اعتراف ضمني بالكيان يؤكده قبل قرار المحكمة بأيام ما نشرته وزيرة الخارجية والاتحاد الأوروبي والتعاون الإسبانية على الحساب الرسمي لموقع تويتر التابع لوزارتها خارطة لإفريقيا تتضمن أعلام جميع الدول الأعضاء باستثناء علم البوليساريو، وهو ما يسمح بالتصديق على ما اعتبر ه أحد المحللين السياسيين “رصاصة الرحمة على البوليساريو التي كانت تستغل هذا الفضاء من أجل إعطاء صورة مزيفة وخادعة لوجودها غير القائم لا من الناحية القانونية ولا المادية على الأرض، وهو طرد إسباني غير مباشر للجبهة ورفض لتواجدها على أراضيها”. وتأتي قوة هذه الرصاصة ودلالاتها العارمة من كونها انطلقت من اسبانيا الدولة الحليف للبوليساريو على مدى عقود وإحدى الدول النشيطة والمؤثرة في ما يُعرف بدول مجموعة أصدقاء الصحراء.
وإذا نظرنا إلى جلسة مجلس الأمن الدولي الذي اعتبر فتحَ قنصليات عامة في الصحراء المغربية “أمرا يتعلق بخطوات سيادية تتوافق والقانون الدولي، وتندرج تماما في إطار العلاقات الثنائية بين المغرب وشركائه الأفارقة” أدركنا حقا دلالات رصاصة الرحمة هذه وحجم الانتكاسة غير المسبوقة لأعداء الوحدة الوطنية سواء تعلق الأمر بالجبهة أو عرّابتها الجزائر.
النقيب إبراهيم صادوق / مراكش
من طرف يوسف العيصامي