ظهر الكهنة الجدد في زمن انتهاء النبوة وانقطاع الرسالة يوزعون كلاما معسولا لاهو بسجع مقفى ولا هو بشعر مجتبى ، انبروا ناصحين يلبسون جبة الأخلاق والمبادئ والأعراف لاستمالة الناس يرفعون شعارات رنانة ، ويقتاتون من معاناتهم ومشاكلهم اليومية. يعلمون جيدا أن المسار ليس سهلا لكنهم على يقين أن مسلكه مثمر في ظل الغفلة وغياب الوعي واليقظة.
يحضرني كي نفصل في الأمر حدث أيام الصبا حين كنا نعبر عن الشقاوة بأدوات البساطة ونخلق من الأحداث مهما كانت مكلفة مجالا للتسلية في طفولة طبعتها العفوية والبراءة ،اسمحوا لي أن آخذ منها مفردة لايمكن إغفالها إنها “تكهانت ” وهي لفظة درجت على لسان العامة للتعبير عن حالة مجتمعية. تجسد خطورة لعب دور الكهنة. كان أبي رحمة الله عليه كلما وقف على مناورة أو مقلب من أحد الإخوة واكتشف خيوطها يصيح بأعلى صوته غاضبا مزمجرا وهو يضبط الحالة “باركا من تكهانت ” جملة تختصر كل شيء وهو موقف فيه من الحس الاستباقي وسرعة البديهة والحدس مايمكنه من الوقوف على وضعيات مماثلة .ربما السر في ذلك قراءة جيدة مستوعبة ومسبقة للمتدخلين قبل وقوع الكارثة . لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة.
من هم هؤلاء الكهنة الجدد ؟
و لماذا نلجأ ل”تكهانت” كوسيلة فتاكة من أجل للوصول لأهداف غير بريئة ؟
“تكهانت ” ليست عملية سهلة كما قد يتبادر لذهن البعض فهي مهنة لايمكن ان يتقنها الكل ،فلكي تكون متمرسا فيها عليك أن تتوفر على مقومات المناورة والخديعة والتدليس وإخضاعها لعملية دمج سحرية تأخذ بلب الضحايا فيسقطون تباعا ، قد يبدو بعضهم حذرا في بداية الأمر لكنها في الأخير تسقطهم دون شفقة أو رحمة. لايمكن ان تصمد أمام هذه الفيالق التي تجتاح الساحة بلاهوية ولا خلفية أخلاقية. إنهم أفاكو العصر الذين تنتعش تجارتهم بعدما يقع التدمير في كل مناحي الحياة ،حين يستأسد الفراغ والتفاهة والوهن، والضعف والفساد، يخرج بائعو الكلام بامتياز من جحورهم حيث يستطيعون ان يجعلوا من كل نكبة صنعتها أيديهم جنة فوق أرض جذباء ، لهم من القدرة على الدجل مايجعل من كل المهتمين والمتابعين يصدقون طروحاتهم لهم القدرة على احتلال المواقع والمقدمات لامتلاكهم معجم من المفردات الساحرة التي تأخذ بلب الجميع. لقد استطاعوا أن يجعلوا من السرقة والريع حق مكتسب ،و من الفشل في المشاريع التي خطت أيديهم وأنفقوا عليها من المال العام كبوة مؤقتة وعادية وغير مفزعة ولا مخيفة مهما طال زمنها واعتقلت أحلام الجميع. يهونون من الأمر المدمر ويهولون من الأشياء البسيطة ،هكذا هم لا يهمهم سوى الكراسي التي احتلوها بدون جهد ولاكفاءة بل بالنصب والإحتيال ،ماضون في سرقة مقدرات وخيرات البلد ومراكمة الثروات ،حتى اذا ما وقعت الكارثة فروا من دون رجعة إلى بلدان حيث تقيم عوائلهم و ارصدتهم بجوازات وجنسيات أخرى متنكرين للوطن الأم.
من حقنا مساءلة الواقع والوقوف على حصيلة المرحلة ،وماذا استفدنا نحن جميعا منها ؟ لعل مايثير استفزازك أن تجد البعض لازال قابعا في منطق ثوري باستعماله مفردات وشعارات لم تعد تصمد أمام واقع الحال وأمام كل هذه التراجعات التى عاكست كل الآمال والعناوين والطموحات التي رفعتها 20 فبراير ، إنه لازال مستمرا في وهمه وهو غارق في الريع ،والآخر يخطب في الناس جيئة وذهابا بالورع وهو يشرعن للإختلالات بالتبرير والتقرير ماشاءت قدرته مرفوقة بفصاحة ملغومة.تسقط ضحايا جدد. من منا يستطيع أن يقف على الحصيلة منذ 2011 ؟ لا أحد يستطيع أن يقنعنا أن هناك أمل فيما شرعت أيديكم لأن عذاباتنا تتضاعف في مقابلها تمتعوأ أنتم بإمتيازات وإكراميات وشعارات لن توقف معاناتنا اليومية فلم يعد سحر الكهنة يقنع لأن كل الأوراق سقطت و إنكشفت.
ذ ادريس المغلشي