إدريس الأندلسي
المالية العامة: الكلام المباح و غيره : قواعد التدبير و قواعد العدالة و الفرق بينهما كبير.
من بديهيات المالية العامة في بلادنا القول بأن الموارد محدودة و متطلبات الصرف على المرافق العمومية ، من تعليم و صحية و تمويل خلق مناصب شغل و مواكبة تطوير الإقتصاد عبر سياسات قطاعية أساسية، كبيرة و تدفعنا إلى الاقتراض لتغطية ضعف المداخيل الجارية أو لنقول الضرائب و بعض المبالغ الهزيلة٣
الآتية من المنشآت و المؤسسات العمومية. الصورة قد تقنع الكثير ممن يتوقفون عند قراءة بسيطة و معقدة من الناحية المحاسباتية للمالية العمومية. و سوف يستمرون بحكم ضعف ثقافي و فقر سياسي و غياب بعد إستراتيجي عند عتبة ” ويل للمصلين…” المهم هو أن اللجوء إلى سوق المال الوطني و العالمي مكلف و قد يكون خطرا على مستقبل الأجيال نظرا لحجم الدين العمومي . و هنا لا يمكن أن أنفي قدرة وطني على مواجهة مديونيته، ولكن يجب على الجميع أن يعرف أن تكلفة المديونية هي قلب للموازين و تكليف للجميع لحمل ما قد تستفيد منه ثلة قليلة العدد صاحبة عدة و كثيرة الإستفادة. . و لتقريب الواقع إلى الفهم، واقف البرلمان على قانون المالية و أجاز لها أن تقترض مبلغ يزيد بقليل على 105 مليار درهم. و وافق في نفس القانون برسم سنة 2022 على رصد 90 مليار درهم لتسديد أقساط راس المال الديون و ما ستيطلبه الوفاء بأقساط الفوائد و رسوم كل ما تراكم لحجم الديون مع عدم احتساب تكاليف الديون التي تقل مدة سدادها عن سنتين. و بالطبع ستزداد التكلفة لتتجاوز ما سنقترضه. ستستمر الدوامة حيث أصبحنا نقترض من أجل مواجهة مديونيتنا.
لنتفق أولا على أن أرقام الميزانية العامة هي ما يمكن اعتباره الممكن في ظل الواقع الحالي. كل الضرائب و مداخيل الرسوم الجمركية لا تغطي إلا ما يزيد بقليل على 60% من حاجيات تمويل كل النفقات التي تتطلبها بلادنا في مجال التسيير و الإستثمار. و ستصل مبالغ ما يرتقب أن تصل إليه مداخيل الضريبة عند نهاية هذه السنة حوالي 231 مليار درهم مقابل نفقات نفقات عادية تتجاوز 270 مليار درهم. هذا بدون احتساب نفقات الإستثمار و اهلاك أقساط ديون الخزينة. و لعل أرقام آخر قانون مالي الذي يؤطر السنة المالية التي نعيشها بعد سنتين كانتا صعبتين بفعل محيط تميز بأزمة صحية و اقتصادية و مالية و اجتماعية، تبين كم هي صعبة طريق الوصول إلى تأمين موارد “هيكلية ” و توازي حجم النفقات العمومية. و قد لا توجد دولة حاليا لا تمول عجز ميزانيتها عن طريق الديون. و لكننا قليلا ما نربط الأرقام بالسياسات العمومية وبآثارها على خلق الثروات الوطنية و تقوية العرض في مجال التشغيل.
ولكن الميزانية العمومية هي ،في الأساس، قرار تشريعي من أجل وطن و مواطنين و هي كذلك محاولة لترجمة المبادئ الدستورية التي تؤكد على أن الوطن فوق كل المصالح الفئوية و الطبقية. و لكل هذا يمكن القول، و بكثير من الواقعية، أن المشرع ، و المقصود به كافة مكونات المشهد السياسي التي تسيطر على القرار و لها القدرة على صنع الأمل كما أن لها من الإمكانيات على إتقان صناعة الإحباط. قد يجتهد وزير المالية أو وزيري المالية في شرح الأرقام و تبرير حدود و سقف النفقات و قد ينتشي قادة الأغلبية بتمرير القوانين، ولكن هذا التمرين ليس مجرد لعبة سياسية و يا ليتها ارتقت إلى درجة إتقان ممارسة السياسة.
القرار المالي العمومي لا يمكن عزله عن ما تعيشه العدالة الإجتماعية و المجالية من مفارقات و ضعف يؤثر بشكل كبير على كل الجهود التي تبذل لتمنيع الإقتصاد في جانبه البنيوي. و لهذا تم العمل لسنوات على إخراج ما يسمى ” بالدستور الصغير” و هو القانون التنظيمي للمالية و وضعت فيه أهداف تهم ” النتائج و توطين الإستثمار و متابعته و تقييم السياسات و البرامج و المشاريع ” ولكن هذا القانون الكبير وقف عند “ويل للمصلين…” و كانت منجزاته منحصرة في قضايا محاسباتية و تدبيرية و تنظيمية دون أن تصل إلى تأثير الفعل على نوعية القرار المالي العمومي و جعل آثاره ذات ثقل على تغيير الإقتصاد و توازنات المجتمع و الحد من الفوارق التي يجمع الكل على كونها من فعل فاعل و هذا الفاعل هو من رفعناه إلى مركز قرار و اقفلنا ابصارنا عن تتبع هجماته على مؤسسات بلادنا. هذا الفاعل يسكت صوت العقل ليقوي موقع ذوي المصالح الكبرى. و لم يشك في هذا الكلام مراجعة الكم الهائل من التعديلات التي تقدم بها فريق أرباب المقاولات في مجلس المستشارين.
الميزانية العامة كانت إلى وقت قريب محطة للكلام الجدي حول مستقبل و أصبحت في حاضرنا مجرد جلسات لتباذل ضعيف للكلام و تعبيرات تنم عن درجة أقرب من الأمية إلى العلم بالشيء العام. . النقاش على بنية الضريبة و موجهات النفقة العمومية لم تكن في أي زمن و لن تكون في المستقبل غير منحازة اجتماعيا او اقتصاديا. أن لا تهتم حكومة بالعدالة الضريبية أو أن تحور مضمونها فهذا ليس مجرد تجاوب مع “واقع” بل إختيار لدعم فئة دون أخرى. و لقد رأينا أن أزمة الكوفيد نزلت بردا و سلاما على قلة قليلة و أن قرار ملك البلاد بالتوجه إلى إشراك الجميع، كما ينص الدستور على ذلك، في المجهود التضامني كان له وقع على تجاوز المراحل الأولى من آثار أزمة الكوفيد.
الميزانية العمومية هي بنية ضرائب مفروضة، من حيث المبدأ، على الجميع و لكن درجة الغش و التهرب من أداء الواجب لا توازيها إرادة مجتمعية و سياسية للتغيير. و لعل نفس المنطق يمكن من اعماله على مستوى تحليل أهداف توجيه نفقات الإستثمار و تلك التي تختفي محاسباتيا وراء ما يسمى بالحسابات الخصوصية للخزينة و التي يصل دعمها إلى علية القوم في قطاعات اقتصادية مهمة. ولحد اليوم يمكن أن نتساءل بكثير من حسن النية عن آثار صناديق دعم المقاولات الكبرى و الاستغلاليات الفلاحية الكبرى و السياسات الكبرى على التقليل من الفوارق الإجتماعية و المجالية. خلاصة الكلام أن تقييم القرار الحكومي على مدى سنوات ظل غائبا. و سيظل من استفاد من النفقات الضريبية و تحويلات الميزانية و من خيرات صندوق المقاصة و من تحرير الأسعار ومن صندوق دعم الفلاحة هو أكبر المطالبين بالمزيد. و حين يتكلم الفقير و العامل و الفلاح و الموظف يقال له أن “ظهر الحمار قصير”. و رغم تدحرجه إلى الأسفل، نطق رئيس الحكومة السابق و المستفيد ” الجاحد” من منافع التقاعد المريح جدا رفضه لأي زيادة لدعم القوة الشرائية لصغار الموظفين. و هذا في حد ذاته برنامج “سياسي ” لن يزيد حزبه الا غروبا. و لكن الأمر أخطر ، لأن المقبل من الأيام قد يكون أمر كبيرا. الصورة التي ترسمها الحكومة عن نفسها و التي تساهم بعض الصحافة و المؤثرون على الفضاء الأزرق في تكريسها، هي نفي أن الأغنياء يزدادون غنى و الفقراء فقرا.
لدينا مجالات كبيرة لصناعة الأمل من خلال المشاريع المهيكلة في المجال الإجتماعي و الصحي و لدينا خارطة طريق لخلق نموذج تنموي جديد و يجب أن تكثف الدولة من تأمين المواطن في مواجهة من تغنيهم الأزمات و لا تبعث في أنفسهم خوفا عن الوطن. قال رئيس الحكومة أنه يعمل و لا يكثر من الكلام و هذا جيد. و لكن الوطن يحتاج إلى من يحقق العدالة الإجتماعية بانتهاج عزل ممارسة السياسة عن مراكمة الثروة لكي تزداد ثروة الوطن حتى يصل إلى مصاف الدول الصاعدة. و هذا يحتاج إلى رجال دولة و ليس لمجرد تقنوقراط يفضلون السكن و السكنى بعيدا عن تراب الوطن و مقام الجدود. نحتاج للكفاءات المغربية و لتكن تقنوقراط و لكن نحتاج أكثر إلى حملهم لهموم و آمال الوطن. ” تمغربييت ” هي الكلمة ذات الفعل السحري التي تلخص ممارسة السياسة لأنها تختزل مبدأ الوفاء للوطن في التضحية من أجله. أما الخطاب الذي يزين ” الواجهة ” و يبرر و لا يفتح باب محاربة الفوارق الإجتماعية و المجالية، فلا حاجة لنا به. مغربنا جميعا هو مغرب العيش المشترك الذي تسكنه روح التعاضد و لا يحمل شعار إفقار الغني المنتج للثروة. لكل هذا وجب التعامل مع المال العمومي بمنطق العدالة التي تمت دسترتها بإجماع المغاربة على نهج ملكهم و ضامن وحدة ترابهم و هويتهم. القانون التنظيمي للمالية يجب أن يتم تفعيل مضامينه العميقة و ليس تقزيمه في مجرد آليات محاسباتية كتقليص حجم التكاليف المشتركة و تقليص عدد الحسابات الخصوصية للخزينة ووضع مقاييس لحجم اللجوء للمديونية و غيرها. الأهم هو أن تتم ترجمة السياسة المالية العمومية إلى نتائج و آثار على وضع المواطن في كافة ربوع الوطن . تمركزت الثروات في يد أقلية و اتسعت لتصل إلى مركز القرار الحكومي و البرلماني و هذا ما لا يشكل طموح دعم مغرب الحريات و القانون و بناء الأمل في مستقبل الأجيال المقبلة. دعونا من خطابات من لا يؤمن بالسياسة التي لا تمزج بين السلطة و الدين و المال. والحمد لله نقولها دوما دون أن نتوجه لغيره لشكره على نعمه. لذلك نطلب ممن أراد، عن طيب خاطر و إرادة، ممارسة السياسة كاختيار لمنهج لتدبير الشأن العام، أن لا ينحني و يجعل للأرقام قداسة أرثوذوكسية . المهم هو تنمية البلاد و خدمة المواطنين العباد.