ماهلك المتنطعين إلا غلوهم وتعصبهم ومبالغتهم وتكلفهم في أمر لاتطيقه الأنفس. إنه نوع من التطرف الذي يقتل كل المساحات المشتركة بين بني البشر. وإقصاء بنوع من التعالي للطرف الآخر المفضي للكراهية بكل تلاوينها من أجل إثباث الذات الأنا ومادونه فمصيره الهلاك والطوفان . التنطع يسرق لحظة تفاهم وانسجام ليصادر طبيعة الأشياء واستقرارها ،إنه يشوه الصورة التي لايدركها صاحبها .إنه نوع من الصعر الذي يصيب المحيا فلايستقيم الكلام ،فتراه معوجا ظنا منه أنه منمق جميل وهو في الحقيقة منحرف زائغ تعافه النفس البشرية السوية فلاتستسيغه.
في اعتقادي المتواضع عادة حين تكتب مقالا موجها للناس فإنك لاتتصنع المواقف كما أنك تريد تبليغ رسالة معينة. وهناك أمر مهم لاتتحكم فيه ويبرز مع التمرس على الكتابة هو خطك التحريري الذي ينشأ مع الممارسة ،لايمكن بالضرورة أن تغيره ،لأنك ستفقد حتما البوصلة وتتيه بين السطور وتصبح بلاهوية ولاتعريف. للمحافظة على اتجاهك تحتاج للموضوعية كما أن الصيغ الأسلوبية التي تتملكها تأتي لوحدها منقاذة وفية لك لانها لم تأت مرغمة بل وجدت ضالتها في حضن عاشق ولن تتركه مادام هناك وفاء ولقاء ،هي لوحدها تغازل المعاني والمضامين ،لاتحتاج لمن يسندها أويوجهها. بل قادرة لوحدها أن تخلق الحدث وتغني النقاش.
الكتابة آلية تواصلية للتعبير عن الفرد ،لكن لايمكن أن تصبح في نظري المتواضع متراسا نختبئ وراءه لتصفية خصوم مفترضين. من خلال التعصب لرأي أو فكرة أو انتماء ،فكل هذه الأمور تحتمل النسبية ولايمكن أن نضفي عليها نوعا من القداسة لدرجة نجرم الآخر أو نكفر من يعارضنا.
في ظل النقاش الدائر حول كل مستجدات الساحة كثير من الآراء تتخنذق في دهاليز غير قادرة على الإنعتاق منها مدججة بإيديولوجيات وخلفيات يصعب محاورتها. البعض منا يحملون آراءهم على رؤوس سيوف ورماح لمواجهة خصومهم. لكن الغريب أن تسمع لتصريحات يغيب عنها المنطق تردد بشكل آلي ومحفوظة عن ظهر قلب للدفاع عن مسؤول هيئة إن تحريت وجدته لايؤمن بها هو إطلاقا. وترى الآخر يدافع عنها حد التعصب و الإقتتال. لأنه بكل بساطة لايوسع مداركه من خلال الإطلاع على مصادر أخرى للمقارنة والتحليل والإختبار إنه ينهل من مصدر واحد وهو ماشبهه البعض بدابة الطاحونة حين نضع قطعة قماش على عينها حتى لاترى ماحولها، ولكي تسرع السير نحو الهدف.
علمتني الكتابة أن أقف على طبائع الناس ،وكيف يتم التواصل فيمابينهم ومعهم كذلك ،لست خبيرا لدرجة لأقف على الخلفيات والنوايا المحركة لكل كتابة لكن قد تلوح في الأفق بعض الملامح والمؤشرات التي لاتخفى على لبيب. التناظر في الأفكار والآراء ينطلق من منهجيات معينة حري بنا أن نحددها قبل بداية النقاش حتى لانسقط في مطب خلل منهجي والذي غالبا ماتقودك إليه ظروف معينة. حالات عديدة يتم فيها عدم حسم تلك المحددات فنتيه في عذابات التعليل من أجل أن نتفاهم على طريقة سوية .
هناك من يحاورك ويمهد بمفاتيح الكلام حتى لاتناقشه في قناعاته وهو يبدي تمنعا في مجاراتك في أفكارك مهما كانت وجيهة ويعتقد أن رجوعه إلى منطقة الإعتراف هزيمة وليس لحظة تصحيح المستفيد منها في الأخير هو. ليس بالضرورة كل الأفكار التي نحملها معنا من المسلمات التي لاتناقش بل مختبرها الحقيقي في احتكاكها بأفكار أخرى. وعليها أن تثبث صوابيتها. لكن التنطع يدخل على الخط فيفسد العملية. فمن يحترف الكتابة ليس بالضرورة أن يكتب لجميع الأذواق أو يتبنى جميع الأفكار إنما يطرح قضايا على الآخر أن يناقشها بعيدا عن الإستهداف أو إثباث الذات بأي ثمن. إنها فسحة للترويح عن النفس لكنها ليست فرصة للتصادم كما أنها لن تكون أبدا نسخة متكررة لرأي الآخرين.
لأنني بكل بساطة ، لست شاعر بلاط ولا أبيع الكلام.
ذ ادريس المغلشي.