بعد أن تحدثنا في أوقات سابقة عن المرافق الخارجية الموازية للدار البلدية أو الرياض كالدرب والصابة والرجيلة والدريبة والسويقة، ثم ولوجنا التدريجي إلى داخل البيت انطلاقا من الباب الذي قد يكون عاديا أو باب الخوخة مرورا بالمدخل أعڭمي ثم وسط الدار والقباب المبنية بطريقة تجعلها مقابلة لبعضها البعض، نستمر في سعينا الحثيث والدؤوب لمحاولة مقاربة أجزاء من الثقافة الشعبية المغربية بدأ النسيان يطالها ويتسلل إليها رويدا رويدا، لكن الذاكرة الشعبية والوجدان الجمعي للأمة يأبى إلا أن يحتفظ لها بحيز لا يتآكل بفعل تعرية الزمن، فالنهر لا ينسى روافده ولا مساراته القديمة كما يقال!!
في ما سلف وانصرم من عصور لم تكن وسائل التبريد الحديثة من ثلاجات وغيرها مما هو متاح للناس والعامة، لذلك كانت الخابية والبرادة هي الوسائط الوحيدة التي تسمح بتبريد الماء، أما اللحوم فقد كانت تستهلك في حينها وإبانها وما فضل عن الحاجة كان يجفف ليعمل منه القديد و”الكرداس” وإلا كان ليتلف ويفسد لا محالة في غياب وسيلة تحفظه طريا إلى أوقات لاحقة، لكن هذا القصور لم يكن يعتري العديد من مواد التموين التي تحتفظ بقدرة مقاومة عالية تجعلها تبقى صالحة للاستهلاك لمدد وفترات زمنية أطول، وعلى رأسها الشاي (حبوب أتاي) والسكر والزيت وغيرها من المواد التي دأب المراكشيون خاصة والمغاربة بشكل عام على استهلاكها بشكل يومي في مطابخهم…
لكن المواد التموينية أو الأطعمة بشكل عام لم تكن لوحدها محور الحفظ والتخزين، بل قد يتعلق الأمر أيضا بأغراض ومتعلقات شخصية تهم أهل البيت، كما أن تعدد أماكن الحفظ لم يكن بالضرورة نابعا من نزعة اكتناز أو ترشيد استهلاك مبالغ فيها، بقدر ما فرضته طبيعة المكان الذي كان يسع في أحيان كثيرة لعائلة واسعة العدد تتشكل من مجموعة أسر لكل واحدة منها “مجال وهامش حركة استراتيجي” خاص بها تحظى فيه بالحميمية والخصوصية، ثم أماكن مشتركة تتشاطرها العائلة المقيمة في البيت جميعها…
تعدد أماكن الحفظ كذلك واختلاف مسمياتها قد ينم ويدل على فروقات بسيطة في ما بينها وإن كان الغرض النهائي منها واحدا موحدا، فالقوس ـ وكما يدل عليه اسمه ـ يكون بابه مقوسا نصف دائري الشكل من جهة الأعلى، كما أنه يتموضع أغلب الأحيان في الطابق الأول من الدار وليس في الطابق الأرضي، وهذا بخلاف الطارمة التي تحتفظ بالشكل المستطيل العادي للأبواب، وقد تكون على شكل بابين متلاصقين يتوسطهما مفتاح، تماما على طريقة “البلاكارات” التي تزين البيوت والشقق العصرية، لكن الطارمة تكون أعمق وأكبر حجما من البلاكارات الحديثة…
أما “المصرية”، فهي تستحق أن يفرد لها هذا الحيز الختامي من النص؛ إذ أنها تتمركز في معظم الحالات في الطابق الأول من البيت وليس في “السفلي” أو “التحتي” وذلك على غرار القوس أيضا، لكن ما يميزها عنه هو أنها تكاد تكون مخصصة بشكل شبه كامل لحفظ المواد والأطعمة والمخللات مثل السمن الحار أو الحلو والعسل و”المصيّر” الذي ينسب إليه اسمها وليس إلى دولة مصر كما قد يتبادر إلى الذهن بادي الرأي، والمصيّر هو الحامض المبشور المفروم الذي ينقع في الماء ويترك ليخلل لفترة زمنية قد تطول أو تقصر حسب الحاجة، وما ترك لفترة تفوق العام والحول يسمى “المصير الحايل”، وهو الذي يستعمل في الطنجية المراكشية وفي العديد من الأطباق الأخرى التي يضفي عليها لمسة و”بنّة” يستلذ ويطيب بها مذاق الطعام…
والمصرية (بيت المصير) بذلك إسقاط ومجاز بلاغي لا يفيد هذا الصنف من الطعام لوحده، وإنما هو إسقاط ومجاز بلاغي يفيد المكان الذي تخزّن فيه الأطعمة لفترات تكون متوسطة أو طويلة الأمد في الغالب الأعم من الحالات، واللي ثقالت على القوس خفافت على المصرية والعكس صحيح.