المبارك الگنوني
كان يحلو لدوستويفسكي أن يردد هذه العبارة”كلنا خرجنا من مِعطف غوغول” في إشارة لقصة “معطف”غوغول التي تعد رائدة القصة الحديثة. “أكاكي” هو بطل قصة المِعطف، الموظّف البائس في أحد الدوائر الحكوميّة، والذي يعمل خطاطاً، ولم يَدمْ في هذه الدائرة إلّا لجمالِ خطّه، يرتدي مِعطفاً رثّاً بالياً، وهو حالة موجودة وواقعيّة، ويُصنّف غوغول على أنّه أبّ للأدب الواقعي، ولكن ما يميّز غوغول في هذه القصّة هو السرد وأساليب الحوار التي تدور فيها، وجعلِه من المِعطف بطلاً للقصّة، ستنسى أكاكي لحينٍ من الزمن، وتتشبّث بالمِعطف وتذرف الدموع لأجله! يَسرُقُكَ في أثناء هذه القصّة، ويحوّل الأنظار لهذا المِعطف الذي رأى المُرَّ من أكاكي صاحب العُزلة الباردة، وسئِمَ من كثرة الخياطة والترقيع! والذي كان يلبس هذا المِعطف حتّى في منزله، وهو يَخطُّ ما تبقى من عملٍ أخذه معه ليؤنس هذه العُزلة!أكاكي، الفقير الحالم، صاحب الحياة الرتيبة النمطيّة لزمنٍ طويل، والذي دخل في هستيريا، عندما سمِع أنّ مديره يزعم لترقيته، فكيف له بهذا؟ هو الإنسان الخطّاط لا أكثر، عاش هذه الحياة لسنينٍ طوال وتعوّد على نمطِها. قرر أن يشتري مِعطفاً جديداً، بعد أنْ اقتنع بانتهاء صلاحيّة مِعطفه القديم، والذي فَقَدَ قدرته على إضفاء الحرارة المرجوة في وجه البرد القارس في روسيا، فقدْ دخل في حالة من التقشّف، لكي يستطيع تأمين ثمن المِعطف الجديد، ومن هنا ستدخلُ غمارَ مغامرةٍ جديدة مع أكاكي، والذي ينتهي به الأمر ميّتاً نتيجة لسرقةِ مِعطفه الجديد! ويعرض غوغول هنا حالة صوفيّة عميقة للغاية، ويفرض في ثنايا القصّة ميتافيزيقيا وما ورائيّة، يتركها للقارئ يفسّر فيها ما يشاء، ولكي يطلق العنان لخياله في وجدانيات جلل، وتراجيديا مؤلمة.فكُلُّنا خرجنا من مِعطف غوغول، ظل يردد دوستويفسكي- كُلُّنا خرجنا من مِعطف أكاكي القديم المهترئ، كُلُّنا خرجنا من مِعطفه الجديد الذي سُرق، كُلّنا خرجنا من تراجيديا صُوّرت بشكل مُبهرٍ وسارقٍ للعقول، كُلُّنا خرجنا من عُزلةٍ مُضنية كُلُّها انكسار، ولعلّ بعضنا لم يخرج! وعاش كما عاش أكاكي ومِعطفه، وكان أحد أبطال غوغول، والمِعطف هو مجازه!كتاب بحجم صغير76 صفحة لكنه يحرر الفكر الذي أصبح مدجنا ومخرسنا تقوده فجاجة بدل الفكر السائل السلسبيل.كتاب جدير بالقراءة.