آخر الأخبار

الملحن محمد بنهمو في ذاكرة الأغنية المغربية

عرفت مدينة مراكش منذ خمسينيات القرن الماضي هجرة العديد من شباب تلك الفترة من الذين كان يسكنهم هاجس الابداع الموسيقي والغنائي، والسبب هو افتقار عاصمة ابن تاشفين منذ القديم الى جو فني يحفز على الابداع ويساعد على الانطلاق في هذا المجال، ولا زلت اتذكر موقفا طريفا ومؤلما في ذات الوقت كان قد حكاه لي الملحن المراكشي الراحل الاستاذ عبد الرفيق الشنقيطي رحمه الله، ذات يوم، وهي في مرحلة الشباب الدافق بالحياة والطموح، اتجه الى المعهد الموسيقي بمدينة مراكش، في منتصف الخمسينيات، وذلك لأجل تسجيل اسمه ليدرس الموسيقى، فلم يجد في هذا المعهد مخاطبا الا حارسا (شاوش) من جنسية فرنسية يجلس على كرسيه امام معهد الموسيقى في انتظار الذي لا ياتي، فاخبره الراحل عبد الرفيق الشنقيطي بغرضه من الزيارة، فساله ( الشاوش) الفرنسي: هل تريد بدراستك للموسيقى في هذا المعهد ان تحترف المجال الفني، ام انت تريد ان تتعلم الموسيقى فقط من اجل اشباع هوايتك من باب ( لولاعة)، فقال له الاستاذ عبد الرفيق الشنقيطي : لا ياسيدي، انا احب العمل في الحقل الفني، وانوي بحول الله الاحتراف)، فنظر اليه الرجل بلطف ورفق، وقال له:( يا ابني ما عندك ما تعمل في هاد المعهد، را احنا غير كندوزو فيه الوقت، اذا ابغيتي تدرس بالمعقول عليك بالرباط ولا كازا ) ، موقف مؤلم للغاية يجسد لوضعية محاولات اغتيال طاقات شباب المدينة في حقلي الثقافة والابداع منذ القديم، ولازالت هذه الوضعية ارثا تتداوله المؤسسات المعنية بهذا القطاع حتى يوم الناس هذا بمدينة مراكش التي عرفت بالفعل حركة هجرة طابور ضم العديد من اسماء شباب فترة الخمسينيات من المبدعين الذين تركوا مدينة مراكش لغياب جو فني بها في اتجاه احدى المدينتين الرباط او الدار البيضاء لتمركز الاشعاع الفني في هاتين الحاضرتين،والذين يشكل اليوم اغلبهم جيلا انضم الى جيل كبار رواد الاغنية المغربية، ومن هؤلاء المبدعين المراكشيين من المهاجرين استحضر الاساتذة الكبار عبد الرفيق الشنقيطي ومحمد علي وعبد الله عصامي والعربي الكوكبي ومحمد القصباوي والحبيب الشراف وشقيقه ومولاي الحسن التسافي والحاج عبد الغني وعبد الله الجوايلي والبشير عبدو وحميد البوعجيلي/شاعرا غنائيا وعير هؤلاء كثير،وضمن هذا المقال اقف عند رائد من رواد الاغنية المغربية من الذين اسهموا بكل المحبة والتضحية ايضا من اجل التاسيس لهذا الصرح الغنائي الوطني الشامخ ، الملحن المغربي المبدع الاستاذ محمد بنهمو الذي، كلما تاملت في الحانه الا واجده يحيلني على عنصر الاصالة المغربية التي تطبع جميع اعماله الفنية كلمات ولحنا وغناء، كما يحيلني بهذه الخاصة على عنصر الشبه الذي يجمعه عندي في ذاكرة الاغنية العربية بالملحن المصري العريق الاستاذ محمود الشريف رحمه الله.                                                                       الملحن المغربي المبدع هو من مواليد مدينة مراكش عام 1949 بحومة سيدي عبد العزيز (درب وايحاح) بالمدينة العتيقة،وهو احد الطلبة النجباء بثانوية محمد الخامس،جمعته في بداية عشقه للمجال الفني علاقة صداقة وطيدة بالمبدعين محمد ابو الصواب ومحمد الدرهم، ليبدا محمد بنهمو مع هذين الصديقين اول خطوة له في درب الفن مع المسرح المدرسي، وفي نفس الوقت كان يمارس عشقه لفن المسرح في اطار جمعية ( النجوم الصاعدين) التي كان يراسها محمد العزيزي،هذا الى جاب شغف محمد بنهمو بحضور تدريبات بعض الفرق المسرحية المراكشية التي كانت انذاك تنشط بنادي الثقافة الذي كان يتواجد في الوجهة المقابلة لعرصة البيلك.                                              وفي العام 1966 انتقل محمد بنهمو الى مدينة الرباط، فالتحق بالمعهد الوطني للموسيقى لدراسة الموسيقى دراسة علمية اكاديمية، وفي العام 1971 التحق محمد بنهمو بالاذاعة الوطنية بالرباط، واشتغل بها بداية منشطا اذاعيا خلال الفترات الصباحية الى جانب كوكبة من رموز التنشيط الاذاعي انذاك امثال خديجة شفيق وام كلثوم الابيض وفريدة النور وزهور لمزاري وعبد اللطيف بوعياد ومحمد نجيب والحاج احمد عكا ومحمد الخضير الريسوني ومصطفى بوجمعة واخرين، وبرغم تفوقه في حقل التنشيط الاذاعي، الا ان محمد بنهمو كان يجد نفسه اكثر انجذابا الى عالم اللحن والموسيقى والغناء، وفي العام 1973 التحق للعمل ضمن المجموعة الصوتية بالجوق الوطني بالاذاعة المغربية، وفي العام 1978 يدشن ريبورتواره الغنائي عندما لحن اول اغنية له لقصيدة بعنوان ( اراك ) من شعر ابي القاسم الشابي وغناء الفنان الراحل اسماعيل احمد، وقد صورت هذه الاغنية للتلفزة المغربية بمدينة مراكش، وفي نفس العام يلحن اغنية اخرى بعنوان ( لفراق ) من كلمات وغناء الفنان فتح الله لمغاري،وتتوالى الحانه التي شدا بها كبار المطربين والمطربات بالمغرب الى جانب العديد من الاصوات الشابة،وقد اختلفت في مواضيعها بين الالحان العاطفية والوطنية والاجتماعية والدينية،وفي العام 1981 خاض الاستاذ محمد بنهمو تجربة تلحين الاوبريت،  فلحن من كلمات محمد الرياحي الاوبريت الجميلة (موسم القمح ) وكان غناؤها مشتركا بين المطرب المغربي الفنان محمد شفيق والمطربة المغربية الراحلة تحفة المذكوري،كما استطاع الفنان محمد بنهمو ان يوثق للحدث التاريخي الذي شهدته مدينة مراكش عام1989 ، والمتمثل في انشاء اتحاد المغرب العربي، حيث لحن اغنية بعنوان ( اتحادنا خير ) من كلمات الشاعر الغنائي المغربي المختار التزنيتي، والغناء كان للمطرب محمد شفيق ولطيفة البوسعيدي التي كانت تشتغل في قطاع الاخبار باللغة الانجليزية بالتلفزة المغربية، كما قدم الفنان محمد  الى جانب الفنان عبد الله الجويلي عام 2012 ملحمة وطنية خالدة بعنوان ( ملحمة المغرب الاخضر) والغناء كان للمطرب محمد شفيق والمطربة فوزية صفاء بمشاركة مجموعة من الاصوات الغنائية المغربية الواعدة، هذا الى جانب رصيد غنائي وموسيقي مغربي اصيل تحتفظ به الاذاعة المغربية منه ما تم تسجيله بصوته الغنائي المتميز، ومنه ما تم تسجيله باصوات اخرين، ومن المؤسف حقا ان يظل الملحن المبدع والفنان الاصيل الاستاذ محمد بنهمو نموذجا لواحد من ابناء مدينة مراكش الذين لم تعد مدينتهم تذكرهم، اما ابناء الاجيال الحالية فلا يكادون يعرفون عنهم شيئا وذلك امام استمرارية حلقات مسلسل التهميش والاقصاء واللامبالات بمثقفي ومبدعي عاصمة ابن تاشفين مراكش العظيمة المعطاء.

احمد رمزي الغضبان / مراكش