سـعـد سـرحـان
لقد عاش المغاربة في بداية عهدهم بالتلفزة شظفا إعلاميا غير مسبوق، ليس فقط لعدم امتلاك معظمهم ذلك الجهاز العجيب، وليس لأن التلفزة كانت، مثل حُمّى المتنبي، لا تزور إلا في الظلام، وإنما أيضا لأن ما كانت تبثه لم يكن يختلف كثيرا عن تلك التشكيلة الفريدة من الصور التي كانت رائجة زمانئذ والتي تظهر سيدنا علي ورأس الغول وسيدي أحمد التيجاني ممتطيا أسدا وسيدنا إبراهيم وهو يتلقى أضحية من السماء.. لذلك، كان علينا، نحن أطفال ذلك العهد، أن ننتظر عودة “سيدنا قدر” من الحج ليهدينا تلفزة بلاستيكية نغمض عينا ونضع الأخرى على عينها السحرية لنتفرج وقتما شئنا على شريط أكثر إمتاعا مما تأتي به تلفزة الرباط، تلك التي كانت تتحول إلى فرية كلما اضطر رب البيت لتخفيض صوتها حتى يسمع جيدا ما يصدع به البرّاح على مشارف الحي، فرغم وجود التلفزيون كان يأتيك بالأخبار من لم تزود.. بالكهرباء.وحين نمى إلى المغاربة أن تلفزيونات العالم والناس غير تلفزيونهم، لجأوا إلى أغرب الوسائل لالتقاط قنوات أخرى. هكذا صار المغاربة، على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية، يصلون أسلاك التلفاز فوق سطوح بيوتهم بتشكيلات معدنية ومواعين المطبخ وخزعبلات أخرى في سعي سوريالي منهم للتخلص من الضجر الذي كان يبث حصريا على قناتهم العصماء. بل إن بعض المغاربة كانوا مستعدين للجوء إلى السحر الأسود لكي يخلّصهم مما يبثه الجهاز الوحيد في العالم الذي يستطيع تحويل الكهرباء إلى ظلام. لم يكن صبر المغاربة من دون فرج، فقد بدأ إعلامهم المرئي يتضاعف بالانقسام، شأن أيّ وحيد الخلية، حتى صارت لهم باقة من القنوات، وهي الباقة التي بلا لون ولا رائحة. ثم انفتحت السماء على ذبذبات العالم، فعرفوا بحبوحة من الإعلام عوضتهم عن الأعمال الكاملة لتلفزيونهم وعلى رأسها “معظم العجب في معجم الخشب” لمؤلفه الفذ مصطفى الماموث. هكذا أصبح المغاربة يتحدثون عن “أبوستروف” و”حساء الثقافة” و”أوبرا شو” وهالة سرحان و”خليك بالبيت” وعصبة الأبطال وستار أكاديمي… بلذة من يتلمظ فاكهة استوائية، كما أصبحت لهم مواعيد غير المواعيد ونجوم غير النجوم… أما التلفزة المغربية فقد وجدت نفسها كشمطاء وسط آلاف الضرات من مختلف اللغات والأزياء والقدود، كما وجدت أن المنافسة لا تتطلب فقط شد الجلد والحشو بالسيلكون، وإنما تغيير الجلد بالكامل وزرع غير قليل من الأعضاء.. الشيء الذي لم تنجح فيه إلا نادرا، فمشية الحمامة لم تستطع أبدا تحويل النعيق إلى هديل. ومع انتهاء زمن المشاهدة القسرية، أصبحنا كلما تحدث الآخرون عن خيولهم نضع أيدينا على قلوبنا مخافة أن يفضحنا ابن المراغة بصوته النكر، وحتى حين ننجح في امتلاك مهر صغير بسائس يتعهّده بالبراري، فإن أصحاب الضيعة (فللضيعة أصحاب طبعا) يُعدّون ما يكفي من الأعنّة لإخماد الجموح والصهيل معا: لكأن الفشل يطفو على سطح النجاح.ولحسن حظ التلفزيون المغربي أن التقارير الدولية التي تفضح رتبنا المخجلة في التعليم وحرية الصحافة ومؤشر الرشوة.. لا تصدر ترتيبا يخص القنوات وإلا لكانت قناتنا العصماء تلتفت فلا تجد خلفها سوى قبائل الزولو. ومع ذلك، فإننا نذكر لها بعض نقاط الضوء التي تسرّبت إلينا من قبضة الظلام في العقود الأخيرة ك”سينما الخميس” و”كمبيوتر 7″ و”أقواس” و”سينما منتصف الليل” و”وجوه وقضايا” و”مدارات” وأخيرا “مشارف”. وسنتوقف قليلا عند هذا الأخير لما أثاره احتجابه من ردود فعل قوية داخل المغرب وخارجه، بالرغم من أن مدته تقل عن نصف ساعة في الأسبوع أي ما يعادل 0,25 في المائة من مدة البث في القناة الأولى، وهي النسبة التي تشي بازدرائها للثقافة. لقد أصبح برنامج “مشارف” بفضل كاريزما صاحبه، وليس بفضل إمكانياته البسيطة، موعدا تابثا بالنسبة لمعظم المهتمين بالشأن الثقافي داخل المغرب وخارجه، بل إنه أصبح دليل المشاهدين العرب إلى القناة الأولى. فبفضل اختياراته المسؤولة للضيوف والمواضيع وملاءمتها للمواعيد والمحطات الثقافية، أصبح كثير من المشاهدين في الدول العربية يضبطون ساعاتهم على توقيته مثلما يضبط غير قليل من المغاربة ساعاتهم على “خليك بالبيت” أو “أوبرا شو”.. وبعد خمس سنوات من الإشعاع أصبح البرنامج راسخا ولم يعد مسموحا لمزاج أيّ كان أن يعبث بمصيره.القناة الأولى فقدت معظم مشاهديها منذ أن جاء سيدنا قدر بمئات من القنوات الأخرى، ولفرط تأكدها من أن لا أحد بات يشاهدها، فهي تختم معظم فقراتها بتلك العبارة المتوسلة: شكرا على متابعتكم. وهو الشكر الذي كان يجب أن توجّهه إلى صاحب البرنامج الذي ضمن لها مشاهدين من العيار الثقيل. وعليها فقط أن تطالع أسماء من وقعوا بيانات التضامن مع برنامج مشارف لتتأكد من ذلك. البيانات تلك كان يجب أن تثلج صدر القناة لا أن تجعل بعض سدنتها يتميزون غيظا. فما قدمته القناة الأولى للمغرب بكل الإمكانيات المرصودة لها من جيوب المغاربة إنما هو شيء لا يذكر أمام ما قدمه، وبإمكانيات ذاتية، كل من الطاهر بنجلون وعبد اللطيف اللعبي وفاطمة المرنيسي ومحمد بنيس ومحمد العمري وسعيد يقطين وعبد القادر بنعلي وعبد الله الطايع ومحمد الأشعري وغيرهم من موقعي بيانات التضامن من خلال إشعاعهم الدولي وترصيع تاج المغرب بأرقى الجوائز العالمية. وعلى ذكر الجوائز فصاحب البرنامج سبق له أن حاز الكثير منها في الشعر والقصة قبل أن ينالها عن مشارف، إلا أن أكبر جائزة للبرنامج وصاحبه هي حملة التضامن غير المسبوقة التي عرفتها الساحة الإعلامية عقب احتجابه. وهو الاحتجاب الذي سبقته مماحكات كثيرة أشهرها منع الحلقة التي استضاف خلالها المفكر المصري المعروف جمال البنا وآخرها ما حدث مع حلقة الإعلامي المغربي المتألق محمد العلمي، تلك التي تأجلت أكثر من مرة ليتم بثها ذات سحور.محمد العلمي أستاذ اللغة العربية الذي هاجر إلى بلاد العم سام، بلاد الانجليزية، وبعصامية نادرة أصبح أحد أشهر الوجوه الإعلامية في القنوات الأكثر مشاهدة، وياسين عدنان أستاذ اللغة الانجليزية الذي حقق باللغة العربية مكانا في الصف الأول بين المثقفين العرب بدواوينه ومجاميعه القصصية المتميزة ومكانة خاصة في الإعلام الثقافي بفروعه المعروفة: الورقي، الالكتروني، الإذاعي، والتلفزي. أما هما معا ووجها لوجه في حلقة من مشارف، فذلك هو الدليل القاطع على أن النجاح يمكن أن يكون مغربيا داخل المغرب وخارجه. المداد الذي أسالته حلقة العلمي لم يكن كافيا لبعض حراس الهيكل المنخور كي يرعووا، فقد تمادوا في صبيانيتهم بحجب مشارف لمدة ثلاثة أسابيع دون أن يقيموا وزنا لمشاهديه الوازنين بالاعتذار أو التوضيح… وكأن التلفزة جاءتهم لعبة من الحج يفرّجون عليها من شاءوا ويمنعونها عمن شاءوا. ثلاثة أسابيع من الحجب كانت كافية لاختمار التأويلات وتحولها إلى تقويلات فإذا الاحتجاب الأرعن (وقد كان منعاً مع إيقاف التنفيذ) تتم إدانته كمنع صريح ومصادرة لحرية التعبير وإجهاز على حق الثقافي في الإعلام العمومي وغير ذلك مما جنته على نفسها براقش. ولأن المماحكة طالت هذه المرة حلقات تستضيف سوسيولوجيين مغاربة يتناولون فيها الحراك الاجتماعي، فإن النقاش انتقل إلى المواقع الاجتماعية فتفسْبَك الموضوع عن آخره. وما دام الشيء بالشيء يذكر، فإن تلفزيوننا في أمسّ الحاجة إلى جهود السوسيولوجيا إن لم يكن لأجل هذه الحركة أو تلك، فلأجل تفسير نسبة المشاهدة وعلاقتها بالنسيج الاجتماعي وكيف أنها لا تحقق أرقاما قياسية إلا إذا تعلق البرنامج بالاختفاء أو الجرائم أو المحاكمات..التلفزة المغربية سكتت دهرا ونطقت كفرا، فعوض أن تنوّر الرأي العام ولو متأخرة بثلاثة أسابيع، ارتأت أن تهرب إلى الأمام باتهام صاحب البرنامج بافتعال المشكلة، كما لو أنه استضاف شاروخان في حلقة عن السينما الهندية ومساهمتها في الهدر المدرسي خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، فآخذته على تعميم بلاغات البرنامج على الصحافة، فكانت بذلك كمن يأكل الغلة ويسب الملة، إذ أن البلاغات تلك هي ما أخرج قناتنا من العدم إلى الوجود العربي ولو لمدة نصف ساعة في الأسبوع. أما تخريجة أن صاحب البرنامج أراد أن يكون بطلا، فلابد أن مكرها لا بطلا هو من أملاها، وله أن يجرب الاختفاء إلى الأبد في ظروف غامضة هو والقناة التي أنجبته ليرى ما إذا كان هذا الاختفاء سيخلف ردودا بالقوة التي خلفها اختفاء “مشارف” لمدة أسابيع فقط…ثم وصل الأمر إلى البرلمان من خلال سؤال شفوي طرحه فريقان برلمانيان على وزير الاتصال الذي فوجئ لهذه السابقة وهي السابقة التي تأخرت كثيرا، فالتلفزة العمومية تموّل من طرف الشعب ومن حق وواجب ممثلي الشعب أن يخوضوا في أمرها، مثلما خاضت في أمرها الجرائد ومن بينها تلك التي يصدرها حزب معاليه. وبخصوص المنع الذي لم يتلقه صاحب “مشارف” بأي شكل من الأشكال فهو أيضا لم يصرّح بأي شكل من الإشكال بأنه ممنوع مثلما أنه ليس مسؤولا عن توابع الاحتجاب المغرض وتداعياته من تأويل وتقويل.. وإذا كان السيد الوزير قد عزا الأمر إلى اصطدام البرامج فليسمح لنا بالقول إن الأمر يتعلق على الأرجح باصطدام الثقفي بالثقافي، الأول نسبة للحجاج بن يوسف والثاني نسبة للثقافة التي أينعت. أما أمر الأيادي أو الأرجل الخفية التي نفى الوزير محاربتها لمشارف، فخُبز التلفزيون غالبا ما يشي بأيّ منها تم عجنه. عقب رد الوزير بساعات فقط عاد البرنامج إلى أهله. ونتمنى أن يفتح الأستوديو أبوابه لتسجيل حلقات تضمن له الاستمرار حتى لا تكون العودة تلك التفافا على الموضوع فحسب. فالبرامج الناجحة تعمّر طويلا، وهاهي أوبرا تستعد لإطفاء الشمعة الخامسة والعشرين من عمر برنامجها الشهير. ولعل “رب ضارة نافعة” أن تنفعنا في هذا المقام/المقال، فلولا ما اقترفته قناتنا في حق “مشارف” ومشاهديه، لما أتيح لنا أن نفكر حولها بصوت مكتوب. ذلك أن التلفزة ليست لعبة يأتي بها الكبار هدية للصغار، وإنما هي منصة لإطلاق صورة البلاد إلى أبعد مدى والدفاع عنها إلى أقصى حدّ. ولهذا السبب تحديدا على كبار المسؤولين عن إعلامنا العمومي أن يتدبروا مخرجا لأولئك الذين جاءوا إلى التلفزيون مع مجيء عقبة بن نافع الفهري إلى المغرب، فثمة أحجار كثيرة في الخُرج تجعل الحمار يقف دون العقبة، كما عليهم بتحيينها ومدها بدماء حية، ذلك أن الكفاءات المغربية التي ترصّع شاشات الآخرين والأطر الإعلامية التي يتوفر عليها المغرب والطاقات الشابة والمبدعة.. كفيلة بجعل تلفزيوننا يتفوق على قناة الأرخبيل شخصيا وليس فقط على تلك التي تسيء إلينا أمام العالم فنرد عليها أمام العدم.إن المغرب يتقدم بخطوات عملاقة في غير ما مجال، فمنذ الستينات (زمن ظهور التلفزيون في المغرب) إلى الآن انتقل المغاربة من المجمر إلى المايكروأوند، ومن العطار والحانوت إلى الأسواق الممتازة، ومن الطرق المعبدة بالحوافر إلى الطرق السيارة، ومن قطار الفحم الحجري إلى القطار فائق السرعة، فضلا عن شبكة الاتصالات والمطارات والموانئ والطاقة الشمسية وطاقة الرياح… فما هو التقدم الذي حققته التلفزة المغربية كي تواكب هذه الطفرات، هي التي أريد لها أن تتحرك قبل ربع قرن؟ إننا نخشى أن تأخذها العزة بالإتم (بالتاء أو الثاء سيان) فتتمادى في بثها المعهود، فتظل، بعد تطور مثيلاتها في العالم، مجرد إطار لعرض صور تذكر الأجيال القادمة بصور سيدنا علي ورأس الغول.