جليل طليمات
كثيرة هي مشاريع ومخططات الإصلاح لم تف بوعودها سواء في مجال التنمية الاقتصادية والمجالية , أوفي مجالات التربية والتكوين والعدالة والإدارة..الخ , بل إن أسمى وثيقة تعاقدية ممثلة في دستور2011 بقيت منذ عقد من الزمن في شبه عطالة , والتفاف على أفقها الديمقراطي.
اليوم نحتفي بمولود جديد طالت فترة مخاضه وانتظار طلعته, إنه النموذج التنموي الجديد الذي أعلن رسميا عن توجهاته ومحاوره وتوصياته كما أعدتها وصاغتها لجنة ملكية مختصة, أخذت فيه بعين الاعتبار آراء ومقترحات مختلف الهيآت السياسية والنقابية والجمعوية ..الخ , ونتائج اللقاءات مع المواطنين والمواطنات في مدن وقرى جهات الوطن. وفي انتظار قراءات متأنية لمضامينه وتوصياته, وفتح نقاش عمومي حوله ,لابد من الإشادة هنا بما تميز به التقرير العام من روح نقدية موضوعية في تشخيص أعطاب و اختلالات النموذج السابق , وإبراز لحصيلته السلبية على المعيش اليومي لمعظم فئات المجتمع.
إن التفاؤل بالرؤية التنموية الإستشرافية للنموذج الجديد كما هي متضمنة في محاوره الإستراتيجية الأربعة وتوصياته, له ما يبرره في وضع اقتصادي واجتماعي مأزوم, زادت جائحة كورونا من تفاقم مظاهره المأساوية ,من فقر وبطالة وهدر مدرسي وهجرة وشعور شبه عام بعدم الثقة في المؤسسات, وفي المستقبل هنا. فهل سيفي هذا النموذج بما وعد به ؟ سؤال يحيل على مسألة “التنزيل” أو التفعيل له عبر سياسات عمومية نوعية , تنموية حقا وعادلة ,وقادرة على إخراج البلاد من ما سبق للمفكر الراحل محمد عابد الجابري أن سماه “الزنزانة 126 ” (في إشارة لرتبة المغرب في سلم التنمية العالمي ) .
حددت رؤية 2035 التنموية آليتين لمتابعة التزام السياسات العمومية بمضامين ومقتضيات النموذج الجديد آليتين : ” آلية تحت إشراف الملك لتتبع وتحفيز الاوراش الإستراتيجية وقيادة التغيير..”,وآلية الإشراك وذلك في إطار”ميثاق وطني للتنمية يكرس التزام القوى الحية للبلاد اتجاه أفق جديد ومرجعية مشتركة”. وهكذا فإن قاطرة التنمية في ضوء النموذج الجديد سيقودها الملك, أجرأة وتتبعا للإنجاز إلى جانب التفاف مختلف المؤسسات, حكومية وتشريعية وحزبية ..الخ حول القيادة الملكية المركزية لعملية التنفيذ والتفعيل .
حقا ,إنه لا تنمية سليمة ومستدامة إلا من طريق ” دولة قوية وعادلة”, فذلك ما أكده فشل النموذج السابق من جهة , والدرس القاسي لجائحة كورونا من جهة ثانية . وعليه, وبالنظر إلى سمات الوضع العام لراهن المغرب حيث يعيش منذ سنوات على إيقاع أزمة مركبة , اقتصادية واجتماعية وسياسية ومؤسساتية وقيمية , وفي ظل انسداد للمجال السياسي , وتراجع لا يخطئه ملاحظ نبيه في مجال الحريات العامة والفردية وفي مقدمتها حرية الرأي والتعبير والتظاهر , فإن الحكمة تقتضي اتخاذ إجراءات استعجالية مرافقة للنقاش العمومي الديمقراطي للنموذج التنموي ,ولعملية ” التنزيل” له . وفي هذا السياق بات ملحا تنقية المناخ العام للبلاد من مصادر اللاثقة في المؤسسات, واليأس من الإصلاح, والعزوف عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية ..الخ . إن مشروعا واعدا للتنمية , كما تجسده ” رؤية 2035 التنموية” يصعب أن يصير واقعا ملموسا في بيئة سياسية ومؤسساتية غير سليمة , وفي مناخ متوتر ومحبط , ولذلك , فإن المدخل الطبيعي لتفعيل النموذج الجديد للتنمية ليس تقنيا تنسيقيا و”حوكميا” فقط على أهمية وحيوية ذلك , وإنما أيضا وبالأساس , سياسيا ,أي يتعلق بالإرادة السياسية للدولة بمختلف مؤسساتها في :
_ ” ترشيد البناء الديمقراطي والمؤسساتي”, كما سبق أن طالبت بذلك نخب فكرية وسياسية وحقوقية في نداء لها غداة انتخابات 2016 ,وهو ما يعني إرساء أسس ” نموذج ديمقراطي ” سليم , ومؤطر بتعاقد وطني واسع .
_ التصدي لمصادر ومظاهر وقوى الإفساد للحياة العامة, الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحزبية. إن التفاعل الجدي والحازم لأجهزة السلطة مع مطلب محاربة كل أشكال الفساد يعد ” الطريق الحريري” لبعث الثقة في المسارين التنموي والديمقراطي : فلم يعد مقبولا,على سبيل المثال,أن يترشح المتورطون في جرائم التلاعب بالمال العام , وأصحاب السوابق في الفساد الانتخابي للاستحقاقات المقبلة .
_ تقويم اختلالات الحقل الحزبي وتشوهاته الباعثة على القرف العزوف عن الممارسة السياسية الحزبية. إن انتشال الوضع الحزبي من حضيضه الحالي أمسى مدخلا رئيسا لأي تقدم ديمقراطي سليم , وأ فق تنموي مستدام لبلدنا .
_ وضع حد للسلطوية في تدبير المجال السياسي , وفي التعاطي مع الحراكات الاجتماعية السلمية المشروعة , ومع الحق الدستوري في حرية الرأي والتعبير والتظاهر. إن تصفية مخلفات هذا التدبير السيئ, الذي ألحق ضررا بصورة حقوق الإنسان ببلادنا , مطلب شعبي اليوم , وهو أيضا من مستلزمات التعبئة الوطنية لربح رهانات الوحدة الوطنية والتقدم الديمقراطي والأفق التنموي للنموذج الجديد . ولعل في إطلاق سراح بقية معتقلي الحراك الشعبي للريف والحراكات الأخرى , ومعتقلي الرأي من صحفيين وكتاب الرأي ما قد يشكل عربونا على إرادة توفير مناخ جديد لتفعيل هذا النموذج التنموي الواعد .
هذه ليست قراءة في التقرير العام للنموذج التنموي الجديد , فذلك ما ليس من تخصصي ( بالمعنى الٌاقتصادي الضيق ) , وإنما مجرد مساهمة تشرط تفاؤلها بتحقيق أفق هذا النموذج التنموي بالإرادة السياسية لتصحيح جميع المسارات وترشيدها , خاصة المسار الديمقراطي : لقد علمتنا التجارب السابقة ,هنا ..وهناك ,أن لا مكان لدولة في هذا العالم ,ولا مصداقية واحترام لنظامها السياسي إذا لم ” تحافظ على الوحدة التفاعلية بين” الزوج الذهبي” : تنمية _ ديمقراطية. إنه درس من الأمس لليوم .. وللغد.