زايد وهنا
حلت الذكرى السادسة و الأربعين للمسيرة الخضراء المظفرة ، وأخذني الشوق والحنين، و أنا أتذكر هذا الحدث العظيم و الانجاز الكبير،إذ كنت حينها طالبا بالإعدادي ، هذا الحدث الذي طبع في نفسي ذكريات لأمجاد و بطولات، خلدها التاريخ بمداد من ذهب ، و كيف لا وقد استرجعنا صحراءنا بطرق سلمية تنم عن حنكة و عبقرية ملك و شعب . كما أنني لا زلت أذكر ذلك الاستقبال المنقطع النظير الذي استقبلنا به أهالينا عند عودتهم ، على نغمات وأهازيج الأناشيد و الأغاني التي أبدعت خصيصا لهذه الملحمة العظمى ، يسمع صداها في كل مقاهي المدينة و بيوتها و متاجرها ،و الكل يرددها بحماس وفخر، وكم كنت أغبط المتطوعين على شجاعتهم و طيبة نيتهم و صدق وطنيتهم ، و قد صاروا أبطالا في عيوننا ، استرخصوا أرواحهم فداءا للوطن ، و مما يزيدنا فخرا أنه كان لأهالينا باقليم الرشيدية شرف السبق في اختراق الحدود الوهمية، و تقبيل رمالنا الذهبية ،و أداء ركعتين في مقدمة الموكب حمدا لله ، وصلة الرحم مع اخواننا في الصحراء . فلا غرو اذا كنا اليوم نخلد هذه الذكرى ونستحضر ما تحمله لنا من معاني الوطنية الصادقة التي دأب عليها المغاربة أبا عن جد . هذه الوطنية التي أصبح الكثير يتمشدق بها ، و لا يخلو مجلس من مجالسهم في البيوت و المقاهي الا و يتمدحون بها ، غير أن جلهم يجهل معناها الحقيقي إذ يراها في الحماسة الزائدة في أمور تافهة ،و لا أدل على ذلك من قول أحد الموظفين ذات مرة لما سألته عن سبب غيابه عن العمل ” لقد دفعتني الروح الوطنية الى تشجيع فريقنا الوطني في الاقصائيات المؤهلة لكأس افريقيا ” ، قلت له ” و لم تدفعك هذه الروح الوطنية لأن تخلص في عملك المأجور عليه و تؤدي الخدمة للمواطنين الذين انتظروك لساعات طوال ، وانصرفوا يائسين دون أن تقضى مآربهم ” ، أما آخر فقد ترك مناوبته الليلية و ذهب ليشاهد برنامج عرب ادول arab idol الذي تقدمه القناة الفضائية MBC لاختيار أفضل المغنيين بدعوى أن احدى المغربيات قد شاركت فيه، و لما عاتبته تدرع بدافع الروح الوطنية غير مدرك أن حب الوطن هو تواجده في مناوبته لأن غيابه قد تترتب عنه مفاسد كبرى ، أو كما يفعل البعض أحياناحينما يتركون عملهم، و يذهبون لحضور الجنازة التي هي فرض كفاية ، علما بأنه لا تربطهم بالميت أية علاقة قرابة أو ما شابه ذلك ، و انما فعلوا ذلك ابتغاء الأجر والثواب، متناسين بأنهم آثمون في حق الواجب الذي فرطوا فيه ،فأي وطنية ومواطنة هذه . إن المواطنة الحقة النابعة من ” حب الأوطان من الايمان ” هي مدى قيام المواطن بالواجب امتثالا لأمر العلي القدير و ارضاءا للضمير، وهي تقاس بما يقدمه من خدمات جليلة للرفع من شأن هذا الوطن ، حسب استطاعته الفكرية و البدنية دون غش أو تخاذل ، و أن يسخر مواهبه و طاقاته في أعمال و أنشطة تعود بالنفع على العباد و البلاد، كالانخراط في الجمعيات مثلا ليساهم في نشر الوعي و محو الجهل من خلال محاضرات و ندوات ودروس إن كان ممن يحملون الهم الثقافي ، أو كأن يغرس فسيلة حفاظا على البيئة أو يدعو لترشيد استعمال الموارد الطبيعية و غيرها من المنافع و المصالح التي ترفع من شأن بلده ، و يسعى جاهدا لتسير بلدته في طريق النمو و الرقي، و قد تتسع دائرة اصلاحه و طموحه فتشمل اقليمه ثم جهته و لم لا وطنه ، فكلنا نسعى لأن نرفع علمنا المغربي خفاقا في المحافل الدولية و في جميع الملتقيات، اقتصاديا و ثقافيا و رياضيا، و هذا ليس بالعزيز على همة من حرروا البلاد من يد المستعمر ، و أبدعوا المسيرة الخضراء ، و هم على استعداد دائم لبذل الأرواح فداءا لهذا الوطن الحبيب ، كما أننا شعب نؤمن بالسلم و الحوارما لم تمس ثوابتنا المقدسة ، ولا تهمنا ادعاءات المغرضين من خصوم وحدتنا الترابية ، و نقول لهم بلسان واحد ” موتوا بغيضكم ” وأن افتراءاتكم لا تزيدنا الا اصرارا ، وكأن المتنبي في حقنا يقول:
فليعلم الجمع ممن ضم مجلسنا ***
بأنني خير من تسعى به قدم
وشبابنا كله عزم و حماس للسير على نهج و خطى سلفه بل و أكثر اقتداءا بقول الشاعر :
كل صعب على الشباب يهون ***
هكذا همة الرجال تكون
و ما دام خصوم وحدتنا الترابية يكتفون بالنباح و النهيق، فقافلتنا في طريقها نحو النماء غير مبالين بنباحهم و نهيقهم، أما إذا مسسنا في أحد ثوابتنا السالفة الذكر ، فلا يمكنني أن أصف رد فعلنا فهو يفوق قدرتي في التعبير، وهنا يحضرني قول شاعر الفخر و الحماسة عنترة بن شداد :
أثني علي بما علمت فإنني ***
سمح مخالفتي إذا لم أظلم
فإن ظلمت فان ظلمي باسل ***
مر مذاقته كطعم العلقم .