المجال والمكان يحكمان الزمان والإنسان…
ـ وفرة المجال الأخضر والمياه داخل المدينة وعلى تخومها ساهم في تحفيز الحس الفني والإبداعي عند المراكشي القديم؛
ـ الخضرة والطبيعة تحفز الفنون وتحد من النزعات الإجرامية عند الناس؛
ـ شخصية المراكشي تأثرت بشكل قوي ومباشر بطبيعة المكان على مر التاريخ…
ـ بعض القادة التاريخيين فطنوا لأهمية المكان فدانت لهم السيطرة ومقاليد القوة.
كان ولا زال الرأي الراجح عندي أن المقاربة الأماكنية لم تأخذ بعد نصيبها الذي تستحقه من الدرس والتمحيص التاريخي وذلك باعتبارها عاملا رئيسا ومؤثرا إن لم يكن هو الأهم على الإطلاق في صنع الصيرورة التاريخية، أو على رأي حجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله “فالمكان عداد للزمن” أي أن الثاني لا يقوم إلا بوجود الأول وليس العكس…
عندما نتكلم عن مراكش مدينة الألف سنة، فإننا بصدد تاريخ طويل مديد حافل بالأحداث والشخوص التي تعاقبت لتصنع دينامية التاريخ على مر أزمنة وحقب متعددة، ليس هذا فقط، وإنما كان للمكان دوره الكبير والفعال في صنع وبلورة شخصية المراكشي المتفردة والمستقلة التي تجعل انتماءه إلى الحمراء واضحا لمجرد لكنة حديثه…
عندما نتحدث عن مراكش القديمة في محاولة لاستقراء التاريخ بغية فهم الحاضر واستشراف المستقبل، فإن الأمر يتعلق بمدينة شيدت على السهل ترتفع بما يزيد عن 450 مترا عن سطح البحر تحفها الجبال من قبل ثلاث جهات، مدينة أسست باتجاه جغرافي يشير إلى الشمال الغربي مما يجعلها قبلة للرياح الموسمية التي تطلق عليه العامة اسم “الشرڭي” أو “الشوم”، هذا في ما يخص الإحداثيات الجغرافية التي تجعل مناخ المدينة معتدلا لطيفا في المجمل العام اللهم فترات القر والحر الشديدة المتطرفة، مع تسجيل أدنى المعدلات في نسبة الرطوبة وهو ما يعادل عذوبة الهواء وصفاء الأجواء وفساحة الأرجاء؛ تماما كما وصفها الرحالة الأشهر محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي “ابن بطوطة”…
مراكش القديمة شهدت كذلك أحداثا جمة وضعت المكان على رأس العوامل المؤثرة في سير مجريات الأمور؛ فمراكش المرابطية اعتمدت في تأسيسها على ست حومات شاسعة المساحة هي قصر الحجر وباب هيلانة وباب فاس وسيدي ميمون وحارة الصورة وأسول، فيما اقتضى الهاجس الأمني عند الموحدين تقسيم هذه الحومات الشاسعة إلى أحياء أصغر من حيث المساحة والحيز المجالي وذلك حتى يسهل التحكم في مداخلها ومخارجها داخليا، أما خارجيا فالسور كفيل بغربلة القادمين والمغادرين على حد سواء، ثم بعد استتباب الأمن والاستقرار خلال الحقبة السعدية بعد تحول مراكش إلى عاصمة امبراطورية شاسعة الأرجاء، أخذت الجوانب الفنية والعمرانية قصب السبق ضمن أجندة القائمين على شؤون الدولة وقتها، ولا أدل من ذلك تنامي وازدهار حركة الفنون مثل الدقة المراكشية والموسيقى الڭناوية القادمة من ربوع إفريقيا جنوب الصحراء، مع تسجيل ظهور نمط معماري فريد ومتفرد قادم من الأندلس عقب السقوط التدريجي لممالكها تباعا؛ وهو الرياض أو البيت/الحديقة حيث تتجاور مواد البناء ومنمنمات التزويق مع الطبيعة والخضرة في مشهد منسجم يعد من أبدع ما صنعته يد الإنسان على مر التاريخ…
وهذا ليس بدعا لأن مراكش القديمة أصلا هي عبارة عن حديقة مفتوحة على الهواء الطلق، فلم تكن الحومات وقتها متلاصقة بهذا الشكل الإسمنتي الفج، وإنما كانت الحدائق والجنانات والعراصي تقع وسط المدينة وعلى تخومها القريبة والمحاذية جدا، فعلى سبيل المثال لا الحصر كانت عرصة باني وجنان با القاضي من قبل شرق السور، ومن غربه كانت عرصة الحامض والجبل الأخضر تربط الغرب بالوسط، وفي الشمال عرصة البردعي القديمة وعرصة الملاك ومن قبلها باتجاه الغرب “تامواسينت” أو مراكش المقعرة الطافحة بالمياه، أما جنوب السور فحدث ولا حرج حيث جنان المامونية وباب الجديد وحدائق أڭدال الشاسعة على مرمى البصر…
وفرة الطبيعة والمجال الأخضر كانت توازيها أيضا وفرة على مستوى المياه من عيون وسواقي وخطارات، مما يساهم في تلطيف المناخ الذي أفسده في وقتنا الحالي التطاول في البنيان حيث العمارات الشاهقة تحجب حركة الرياح، هذا دون الحديث عن التلوث البيئي والإجهاز على المجال الأخضر داخل السور بالخصوص…
قديما قال الناس بمثل “ابن مدرسة تغلق سجنا” في إشارة إلى دور العلم والتعلم في خلق الوعي وتشكيل منظومة القيم لدى الفرد والجماعة، وعلى صعيد مواز، فقد ثبت حتى عاد من المسلمات القطعية في علم الاجتماع وعلم النفس السلوكي دور الفنون والطبيعة في امتصاص النزعات الإجرامية عند الإنسان، فمن اعتادت وأدمنت عينه رؤية الجمال لن يبحث عن القبح وإنما سيستهجنه ويزدريه، وفي مراكش القديمة كانت الطبيعة محفزا على الجلوس والتمتع بخضرتها حيث يحلو الطعام من طواجن وطناجي، وحيث يطلق العنان لمَلَكَة الخيال لتقول بالكلام الموزون من ميازين وملحون ومختلف الأهازيج والفنون كما تحب وتشتهي…
التمدد الأفقي على حساب نظيره العمودي في البناء يضفي حميمية أكبر على العلاقات الإنسانية، المناخ والجو وتنوع التراث الشفوي ووفرته عطفا على تعدد الطبقات الاجتماعية في عاصمة الدولة/الامبراطورية أعطت طابع الرزانة والثقالة أو ما سمي في وقت لاحق بالحيالة والتعكريطة، لتكمل الطبيعة بخضرتها الرائقة ومياهها الشفافة المنهمرة باقي أجزاء هذه اللوحة الفنية الخالدة التي سموها مراكش أرض الله، فلله الحمد والمنة من قبل ومن بعد.