عبد الاله بلقزيز
هل قَحِطَتْ ينابيعُ الإبداع العربيّ في الغناء والموسيقى وأَجْدَبتْ إلى هذا الحدّ الذي أَقْفَر فيه مجالهُما من أيّ علامةِ سَوَاءٍ وأصابهُما اليَبَاب؟ لِمَ تجتح حياتَنا اليوميّة موْجاتٌ متلاحقةٌ من الغناء الرّخيص والموسيقى المسلوقة سلْقاً على غير أصول؟ ثمّ بمَ نفسّر هذه الحال من نضوب الينابيع، بل من الانحطاط والتّردّي الذي أصاب ميداناً كان الأَغْزَرَ والأظهرَ في الثّقافة العربيّة؟ وأخيراً لِمَ يُمَكَّن هذا المنتوجُ الرّخيص من التّسويق والانتشار والفُشُوّ، وتُشرع الأبوابُ أمامه ليفعل فتكاً بالذّائقة وتبديداً لها وللذّاكرة الفنيّة للعربيّ؟
كان القرن العشرون قرنَ الأصوات الصُّدْح الرّفيعة التي ملأتِ الدّنيا وشغلتِ النّاس لِمَا كان يَطْفِر منها من آيات البهاء. مصقولةً كانت ومرتاضةً على أداءِ الأَعْقدِ والأَدَقِّ بالرّقّة والعذوبة المطلوبتين. رافقتْنا في الأصباح والأماسي، في السّرّاء والضّرّاء، في الفرج والشّدّة، واقترنت عند أجيالٍ منّا بالمشاعرِ كافّة: الحبّ، الفرح، الأسى، الحَزَن، الحيْرة، الشّكّ، الأمل… إلخ، فكانتِ الأصوات تُسْتَدعى في الأذهان – إنْ عزَّ العثورُ عليها في المذياع – لترافقَ المرء منّا وهو يسبح في شعوره. إنّه قرن أمّ كلثوم، واسمهان، وفيروز، وليلى مراد، ومحمّد عبد الوهّاب، وصبري المدلّل، وناظم الغزالي، وفريد الأطرش، ومحمّد فوزي، ووديع الصّافي، ونصري شمس الدّين، وعبد الحليم حافظ، وصباح فخري… إلخ؛ أولئك الذين إذ نعيد الاستماع إليهم، تتملّكنا مشاعر الحسرة على زمنٍ كانوا فيه، وكانوا شهوداً عليه.
وما كان لهذه الأصوات، التي بَدُعَتْ بَدَاعةً إلى الحدّ الأقصى، أن تَتَبَجَّس طاقةً إلا بوجود موسيقيّين كبار يُتْقِنُون قراءة خرائط الأصوات ومساحاتها ومَرْقاها في طبقات الصّوت، ويَنْتَقُون الأَجْمَل والأمثلَ، ويضعون لها الألحان المناسبة. علماءً كان موسيقيّو القرن العشرين العرب وموهوبين. أكثرهم تلقّى الموسيقى على الأصول العلميّة في معاهدها، وبعضهم صنعتْ له عصاميّتُه وموهبتُه المكانَ والمكانةَ بين الكبار. من منّا لا يسلّم بالمكانة الاعتباريّة الفريدة للأعمال الموسيقيّة والغنائيّة التي وضعها سيّد درويش، وزكريّا أحمد، ومحمّد القَصَبْجيّ، ومحمّد عبد الوهاب، وفريد الأطرش، وحليم الرّوميّ، وعاصي الرّحبانيّ، ومنصور الرّحبانيّ، وزكي ناصيف، وتوفيق الباشا، وفيلمون وهبه، وكمال الطّويل، ومحمّد الموجي، وبليغ حمدي، وإلياس الرّحبانيّ، ووليد غلميّة، وعبد السّلام عامر، وزياد الرّحبانيّ ومرسيل خليفة. لقد قدّم هؤلاء للذّائقة الجماليّة العربيّة أرفعَ مادّةٍ للصّقل والتّثقيف والإمتاع، لعلّها تكون الأَثْرى في ما قدّمتْهُ الثّقافة العربيّة المعاصرة.
اليوم، باستثناء مرسيل خليفة وزياد الرّحبانيّ وعمر خيرت في الموسيقى وأميمة الخليل وعبير نعمة في الغناء، لم يعد أمامنا وحوالينا إلاّ الجدب، بيداء قَحْلاَء لا زَرْع فيها ولا ضرْع. «موسيقى» لا تشبه الموسيقى، وأكثرُها خارجٌ من الكمبيوتر ومهجَّن، ويَسْتُر عورةَ جُمَلِه غيرِ المحبوكة بِ «أوركستراسيون» يحاول بها إخفاء التّجاعيد. وأصوات تشبه أصوات النّاس العاديّين ولا امتياز لها عليها؛ أمّا في الأداء «الغنائيّ» فتفتقر إلى كلّ شيء: من خامة الصّوت المناسبة إلى الصّقل الأكاديميّ. هذا عَدَا عن نوع «الأغنيّات» التي تؤدّيها؛ حيث لا نصَّ شعريّاً أو جزليّاً يشدُّك إلى السّماع، ولا موسيقى تَلين بها عريكتُك، ولا أداء يَشْفَع لمالٍ هُدِر في الإنتاج هَدْراً!
يَحْدُث ذلك في مادّةٍ ثقافيّة (الغناء) هي الأوسع انتشاراً والأكثرُ استهلاكاً ضمن المنتوج الثّقافيّ. لا يقرأ النّاس جميعُهم الكتبَ والرّوايات ودواوين الشِّعر، ولا يرتادون جميعهم المسارح ودور السّينما، بل أكثرُ استهلاكهم اليوميّ المادّةُ الغنائيّة. ترافقهم في الحلّ والتّرحال: في البيت، في الشّارع، في المقهى، في السّيارة، في كلّ مكان يقصدون إليه. وعلى المرء أن يتخيّل ما نوعُ الثّقافة والذّوق الفنّيّ الذي يتلقّاه النّاس، هذه السّنوات العجاف، في ضوء – أو في ظلام – هذا الانحطاط «الغنائيّ» الذي يحيط بنا مثل حبل المشنقة على الرّقبة! للمرء أن يتخيّل الفارق بين أجيال غارقة أسماعُها في الغثّ والرّخيص وأجيالٍ أسبق كانت تفتتح أصباحها بصوت فيروز، وتختتم أماسيها بصوت أمّ كلثوم أو عبد الوهّاب!
ما الذي أوصلنا إلى هذه الحال من البؤس التي تُلْجِؤُنا وطأتُها إلى اللّياذ بفنّ القرن العشرين؟
أسباب كثيرة صنعت هذه النّكبة الثّقافيّة: غياب الرّقابة الرّسميّة على هذا النّوع من المنتوج الخارج عن معايير الفنّ المعتَمدة في مؤسّسات التّرخيص بالمنتوج الفنيّ مِن قِبل متخصّصين في الأصوات والموسيقى؛ منطق التّجارة والتّسليع والتّسويق الرّبحيّ الذي تعتمده شركات الإنتاج؛ ضحالة التّأهيل العلميّ الموسيقيّ والصّوتيّ للملحّنين والمغنّين؛ استسهالُ هؤلاء تقديم أيّ شيء باسم الغناء؛ أدوار المهرجانات الغنائيّة في إشاعة هذه الأنماط المُنحطّة من الغناء؛ التّغيُّر في نسق القيم الثّقافيّة إلى الحدّ الذي يصبح فيه الرّبحُ السّريع هو المبدأ، لا الكفاءة والاقتدار!…