انسحب دون أن يلتفت.
لكنه ترك وراءه توقيعا معبرا.
بمقهى بالشارع الرئيسي المحاذي للإدارة في صباح يوم دون سابق اتفاق زارني صديق عزيز عرفته لمدة ليست باليسيرة. بعدما رآني في مكاني كالمعتاد جالسا أنتظر بعض المرتققين. ألقى التحية وهو يرتدي تلك الكمامة اللعينة التي حجبت عني ملامحه الأساسية فلم أفطن لهويته إلا من خلال نبرة صوته المعروفة فصحت به :
أهلا… سي محمد… لقد طالت غيبتك. توحشناك ومدة ماشفناك.
تبادلنا التحية وجلس بجانبي نتبادل أطراف الحديث. في الحقيقة وجدت صعوبة من أين نبدأ تلك الذكريات لتنوعها وجمالها وفرادتها ومستملحاتها ومواقفها ،كلانا وجد نشوة غير عادية وهو ينبش في الزمن الجميل ليعيد عقارب الساعة للحظات حميمية كنا فيها سويا نخرج هروبا من روتين العمل لنأخذ مجلسنا في مطعم “باحسن “المجاور للمقاطعة في شارع فلسطين من أجل تناول “شركات من السردين ” كطبق شهي لاحدود لوصفه ، كان له عشق حد الثمالة كما كان ينعثها سي محمد. ثم نعرج ونحن نحث الخطى لمقهى النجوم لنحتسي قهوة سوداء “نورمال ” تعدل من مزاجنا لتدبير ماتبقى من الزمن الإداري المرهق. نتصفح ماتبقى من أخبار الجرائد اليومية .ونتسلى كذلك ببعض القفشات والنكت لتشكل طبقا دسما لجلسة تواضعنا على عقدها كل يوم في نفس التوقيت .
محمد رجل كفء خبر الإدارة بكل تفاصيلها. وراكم تجربة ذات قيمة عالية لايستهان بها ، وتساءلت مع نفسي في حوار داخلي لم أرد البوح به له حتى لا أثير بسؤالي بعض المواجع لماذاتضيع مثل هذه التجارب التي تحمل عناوين وتخصصات قلما نجدها الآن ؟
فعدلت عن الإستمرار في هذا الحوار لأنني أجد نفسي عاجزا عن الرد. وأنا أجالسه في هذه اللحظة العابرة وهذا القدر الذي قاده لمكان جلوسي الإعتيادي لانه يعلم يقينا أنني كثير التردد عليه ،جاء ليصل الرحم معي بعد هذه الغيبة الطويلة. بعدماكنا نكتفي بالهاتف. شردت لوقت وجيز وأنا أتصفح تلك المحطات التي مرت من أمامي في شريط يحكي ذكريات لن تنسى. جاءت دفعة واحدة و كأنها لا تطيق البقاء لأن الظروف لم تعد كما كانت. وجدت سي محمد في صحة جيدة كله حيوية ونشاط كما عهدته. سألته عن أحواله فأجاب : الأبناء أنهوا دراستهم الجامعية والبعض منهم أصبح موظفا بدول أوروبية. لم يبق في البيت سوى الزوجة والبنية الصغيرة آخر العنقود التي ستجتاز الباكلوريا السنة المقبلة. أعيش حياة وضعت لها برنامجا من قبل ، لم أجد صعوبة فكثير من الأمور حالت بيني وبينها ظروف العمل والإنشغالات اليومية ،تفرغت لها الآن ،الحمد لله ، “خوك… سانك سانك. ”
سألني عن حالي وهو يردد : لم تتغير أبادريس،أنت كماأنت…
تحية نضالية عالية…
قاطع حديثنا زميل معنا يتجاذب أطراف الحديث فبادر بسؤال اعتبرته مفاجئا أحدث قطيعة غير متوقعة في نقاش تقاطعت فيه الذكريات والتفاعل الإيجابي لمستوى عالي :
هل قامت بالفعل الإدارة بحفل تكريم للمغادرين اعترافا بمجهوداتهم المبذولة ومسارهم المهني المتميز ؟
كان سي محمد يستمع باستغراب شديد لهذا السؤال ،فوقف مليا يتأمل هذه الوضعية التي جعلتنا نحن الثلاثة لم ننبس ببنت شفة. تبسم بطريقته المعهودة وهو يلوح بيده مودعا وانسحب في صمت ولم يلتفت. كعادته فلايرد على الإستفزاز سوى بالتجاهل ، لايكثرت بطبعه لحوار مختل فاقد للتوازن كما أنه لاينوب عمن خانته أخلاقه ومواقفه ليتخذ قرارا نبيلا يحمل إشارة إيجابية تعترف للآخرين بمجهوداتهم ،
إنصرف وهو يخط بكل مكونات هذا المشهد توقيعا شخصيا على هذه الحالة بعبارته المشهورة “بدون تعليق ”
ذ إدريس المغلشي.