آخر الأخبار

اوراق من المغرب الراحل او خواطر مبعثرة

عبد الصمد بوحلبة

بصراحة…أعتقد أن الفضاء الجامعي هو أفضل مكان في هذا الوطن! ففيه يجاهد الطالب للتغلب على سلبياته ويحاول تكريس مفاهيمه وأحكامه الشخصية نحو الوقائع والأحداث كما يراها هو..أما أنا فاستهدفت تجريب أساليب جديدة في تمتعي بالحرية والاختلاط رغم فسحة المدرجات والتخلص من قهر استعمال الزمن وجرس الدخول وتبرير الغياب.. كنت أرفض القوالب وحتمية الالتزام بالأعراف الاجتماعية، وأردت، في نفس الوقت والمحيط، الهروب من تسلّط والدي الرهيب، والذي لم يكن يخلو من مرونة عجيبة! وفي الحرم الجامعي، شعرت أني سوف أعيش حياتي وأمارس مواهبي وعيوبي..كنت أعرف أنّ التأمل في العيبِ عيبٌ..وأنّ الحبَّ في الله هبة وعطاء..ولكن ما لم أكن أعرفه صراحة، وما فرطت في حسن تقديره هو فضل الله عليّ، بعد تشريفه سبحانه وتعالى لي بصداقات رائعة، وأصدقاء يستحقّون التضحية والتزكية.. ولطالما أثبتَ الواقع أنّ من أكثر الناس أذى لنا هم الأشخاص الذين أعطيناهم كل ثقتنا..وبالتالي فلا ريب أن زمرة من أصدقائي الحقيقيين ظلت تتقبّل اعتذاراتي وتغفر زلاتي وتتجاوز عن هفواتي.. وربما أكون صديقا شقيا..أو شخصا غير عاديا..ولكني كنت دائما راضيا وملتزما بالواجب والممكن و”المستحيل”.. وكنت أجد من الخير أن أندم على ما فعلت، من أن أتحسّر على ما لم أفعل..! كانت فترتنا الجامعية أجمل شيء في حياتي، رغم كونها صادفت حرب الخليج الأولى، التي أظهرت “خادع” الحرمين على حقيقته! مازالت ذكريات سنواتنا الجامعية عالقة في ذهني، وما أكثر ما تحضر وقائعها وقصصها في محادثاتي بمختلف الأمكنة والأزمنة.. وفي ذاكرتي الآن، مشهد لمجموعة من الأحباب (أقصد الطلبة) عبدالله، عمر، حسن، طارق ومحمد يجلسون سوية يتناقشون فيما بينهم، ويحللون مضمون المحاضرة.. ويستمر الجدال، وفي الأخير أتدخّل كعادتي، مراهنا على جرأتي وقلة حيائي، فألقي سؤالي: “من يعطيني ملخص المحاضرات لأنسخه من أجل “تحريزه” وشكرا مسبقا..” وفي كل مرة تتحول التضحية إلى ضحية، فيتقدم أحد الأصدقاء، وغالبا ما يكون طارق، بخطوات باردة يثقلها الحياء والتسليم، فيستجيب للمطلوب ويمنحني ملخصاته الرائعة المحررة بخط غاية في الروعة! وأقوم أنا بالواجب أنسخ الدروس وأعيد كتابتها بخط صغير جدا من أجل هدف حقير فعلا هو الغش في الإمتحانات وتحصيل الشهادات الفارغات الكاسدات..! وتستمر العلاقات ونتبادل الخدمات.. ونخدم ذواتنا.. ونخدع أصدقاءنا وآباءنا.. وإخواننا ومؤسساتنا ومجتمعنا وبلدنا..
وتمر الأيام وتتعاقب الأعوام، فتلوح علامات القلق على الجميع، حتى على أوجه الطلبة النجباء والأصدقاء الأذكياء.. ظهرت خطابات مترادفة من قبيل: معدل النمو..الكساد..البطالة..العمالة..وتنمية الموارد البشرية..أما “صاحبكم” فقد تخلص من شهادته تمزيقا، بعد أقل من سنة واحدة، ورحل إلى الصحراء المغربية، وبالضبط إلى عيون الساقية الحمراء! وكان يعلم أن عدد حاملي الشهادات الجامعية في مراكش وحدها يفوق 550 ألف ضحية، حتى قبل أن يفرح بحصوله على شهادة إجازة مغشوشة في شعبة الحقوق في دولة الحق والقانون.. فعندما دخلت الجامعة لأول مرة منفرداً لوحدي.. أسير باستغراب ودهشة..أدركت أن هذا المسرح الجامعي للتعليم العالي المليء بالغرباء سيتمخض عن أصدقاء وفرقاء..وآمنت للوهلة الأولى أن كل طالب سيعيش الحياة التي يستحقها، حتى لا أقول يستحق المعيشة التي سيحياها..ووحده الحنين من باستطاعته أن يجمعنا في گروب “أحباب الزمن الجميل”!