آخر الأخبار

اوراق من المغرب الراحل او خواطر مبعثرة

عبد الصمد بوحلبة

الخاطرة الثامنة:

كنت شقيا في صباي، ألقى من الشدائد والمحن، على قدر شقاوتي وصبابتي.. وهو ما كان عندي أدعى للصبر الجميل والإحساس القوي بمعية الله سبحانه وتعالى! كنت غالبا أجد ما أطلبه من السماء وأرجوه، فأفرح ثم أخاف فأستغفر.. وكنت في ذلك الزمان الصبي “أقدّس” أبي وفي الوقت ذاته أخشى غضبه في كلّ حين..وظهرت لديّ، في سنّ مبكر، رغبة طاغية للتحرر والانعتاق من أسره والرحيل عن أسرته..ولكن كان وجوده يشعرني بالأمان وبشيء من الأُنس والغرور..”ألستَ ابن المدير..؟!” كانت تقول لي نفسي، بين حين وآخر، بوحي من فطرة الإِنسان ووسواس النفس!
كان أبي، قبل بلوغي سنّ الحلم، صاحب قلب كبير وصاحب وجه نضير، وكان بالنسبة لي تاج الزمان ومنبع الأمان..! وكانت همّتي تجد لذةً في خدمته والحرص على اقتفاء أثره…مستعينا في ذلك بقوى وطاقات الحنان والرأفة والغفران التي كانت تجود عليّ بها أمي الحنونة!
ومع بوادر الوعي الأولي وتغيّر نظرتي إلى جسدي المراهق، بدأت أتأمل “حالة” أبي.. فأزعجتني “الأبوة” بصرامتها وقسوتها ومثاليتها..وتمثلاتها غير المنطقية! نعم إن الله يوصينا بآبائنا..وصحيح أنّ رضا الأب من رضا الرب.. ولكن اسمع مني بلا محاباة ولا تحتجن عليّ بآباء الصحابة أو صحبة الأب بالمعروف ولو كان كافرا..أولاً يشهد الله أني كلما رأيتُ أبي قائما يصلّي، أحسبه يدعو لي بإسمي الخاص، فأطمعُ في رحمة ربي وحفظه وأجعل كلّ المخاوفَ أمانيّ فأنطلق في غزواتي اليومية تحت رعاية ربانية، كنت أتلو بضع آيات وشيئا من الأدعية قبل أن أرمي جسدي الخائف في واد أم الربيع، بينما تكون النفس مطمئنةً وفي خالقها واثقةً..كذلك كنت أفعل قبل دخولي إحدى بيوت زنقة “گردة” حيث الفاحشة العارية والأجساد المحرّمة..وأخرج مستورا عن الأنظار القاسية وأعبر درب الخطيئة شبه الخالي نحو ساحة الزرايب، ومنها أنقلب عائدا إلى البيت لإزالة الجنابة وإزاحة الشعور بالكآبة.. وكان أبي أيضا، مُحبا للصوم ومتخشّعا في صمت، ولباسه كان عصريا أنيقا ورسميا..وكانت أشغاله كثيرة وسريرته خالصةً لوجه الله، أو قل على الأقل، كان صادقا في علاقاته بعباد الله، إذ كنت أرى كيف كانت القلوبُ تتهافتُ إليه..بين مؤيد ومعارض، ومحبّ وكاره، ومطيع ومتمرد.. لم يكن أبي ممن يأمن جانب المخلوقين، ولو كان باشا المدينة أو ممن يُضيِّع حقّ الخالق “فيُقلّب اللهُ قَلْبَ الذي قَصَدَ أن يُرْضِيَهُ فيُسْخِطُهُ عليه”..وقد رأيت من أبي عجباً كان يسأل الله كلّ حاجاته بصوت مسموع، ويرضى بأقداره وقضائه بكلّ تسليم وخضوع..وكنت أتناسى أفعالي وجناياتي وأحاول أن أقلّده في دعائه وخضوعه فيهتف ضميري: يا نفسَ السوء أو مثلُكِ ينطق؟! فأخفض رأسي واسأل ربّي العفو والعافية فحسب!
وفي طور التعليم الإعدادي صرت أبغض أشياء كثيرة في أبي، واعتقدت آنذاك أني أتقرب بهذا البغض إلى الله ربي بكل ما أقدر عليه..وقد ساهمتْ ظروفُ البلاد آنذاك -ولا سيما خلال سنوات النضال والرصاص- في اقتناعي بأني لست أقلّ وعياً ومعرفةً من أبي، وبات يحضر ذكره كثيرا في مقارناتي بين سلطة الأب والنظام السياسي المغربي المستبد، ورفضت بشدة رفع مكانة “الأبوة” الى لحظاتها القدسية وعصمتها الدينية، ولم تكن عوامل كثيرة مثل كبر العمر وموارد أبي الاقتصادية وقواته المسلحة من مأوى ومأكل ومشرب لتفرض نفسها عليّ! لأنّ رغبتي في التحرر والانفلات من تسلّطه كانت الأقوى..أما جراحاته كأب يعول أسرة من ستة أفراد متطلبين ومتنافرين وانكساراته كمدير لثانوية مولاي إسماعيل الثورية، بقصبة تادلة، بإضراباتها الموسمية وتجمعات التلاميذ في حلقات شبه طلابية، فلم يكن يحكيها لأبنائه، أو تظهر على ملامحه، وربما كان يفرّغها في زوجته على سرير النوم والنعيم..! بدى لي أبي كما لو تربّى على قيم صارمة للرجولة والأبوة، ليس فيها شيء من العطف وطلب العون أو استدراج الشفقة من الزوجة والأبناء.. وأصبح حضور أبي في أي مكان أو زمان يقابَل عندي بالكثير من مظاهر الرفض والإبتعاد..حتى عندما يكون محقا فيما يقول وصحيحٌ جدا ما يفعل..! فقد بات يشكل في وعيي عنوانا للقسوة والخشونة والعنف.. ففي معظم المناسبات العائلية، كان كثيرا ما يحرص على الآداب الشرعية، فلا خيرَ -في قاموسهِ- في سَعَةٍ الدنيا إذا ضيّقتْ طريقَ الآخرة، وداخل البيت لا يكون رحيما مع أبنائه، كما تقتضي العاطفة، بل هو دائما الآمر الناهي، والمبشّر بالمكافآت والمنذر بالعقوبات، ومَن منّا لم ينل نصيبه من قسوة أبيه، ؟! التي تصل حدّ الضرب والافلات من القتل غير العمد..! فليس إلا القلق والكذب والخوف. وقد غدوتُ متحيرًا أقول: ما ذنبي.. وما حيلتي..؟! لماذا يمارَس عليّ الاقصاء ولماذا يحاول أبي طمس شخصيتي واعتزازي بنفسي..؟! فخفت أن تكون تلك حالتي أيضا مع خالقي سبحانه، أتقرب إليه، وهو لا يريدني، وربما يكون قد كتبني شقيًّا في الأزل..ومن هذا خاف الحسن! ولكن هل عاش أبي حياة طبيعية وهل غمره والده/جدي بالحنان والمحبة والعطف..؟! شئتُ أم أبيتُ، فإني أشبه أبي في شؤون وشجون كثيرة.. ولا أنكر اليومَ أني كنت أخاف منذ بلوغي سن المراهقة والمغامرة أن يكون الله أطلع على بعض ذنوبي، فقال: لا غفرت لك! واليوم، وفي إنتظار أن تسلمَ سفينة الرجاء وترسو في جنة الخلد بإذن ربّها، فإني أحرص على النظر في ملامح وجه أبي، حتى أتذكرها وأعرفه حين ألقاه في الدار الأخرى لأشكره مرة أخيرة أمام ربي، على كفاحه الطويل وصبره على شقاوتي ومكارم أخلاقه بين الناس..!!