بين التمرد والفن
لما عدنا إلى مراكش استقررنا ، من جديد في سيدي أحمد السوسي ( درب الجامع ) في حي سيدي بنسليمان ، وهو ما هول لي ان التحق بكتاب الفقيه بن الشافعي . ثم انتقلنا إلى منزلنا ، في قاعة ” بناهيض ” ، فالتحقت 2 بكتاب بكتاب يوجد في درب سيدي بوحربة بحارة الصورة ، يديره الفقيه علال المسيوي – منزل كان في ملك الفقيه أكرام . استأنفت تعليمي إلى أن أنهيت الختمة الثانية ، وبدأت في الثالثة .
أما بالنسبة إلى كتاب الجبلي ، فقد غادره الفقيه بوعزة ، بعد أن عوضه فقيه آخر ، هو مولاي امحمد . كان هذا الفقية فقيرا مدقعا ، وكان في حاجة إلى موارد مالية لإعالة عائلته ، ولذلك كان يذهب إلى سوق ” الموقف ” ، في كل صباح ، ليحضر ” الدلالة ” حيث يشتري بعض الألبسة المستعملة ، في الصباح ، ليعيد بيعها بهامش ربح هزيل ، في ” قيسارية الدلالية ” ، التي كان الناس يفدون إليها من الطبقتين : الوسطى ، والميسورة . أتذكر مرة أنني اصطدمت مع هذا الفقيه ، إذ كان يوكل إلى حراسة الطلبة أثناء غيابه ، وكنت أساعدهم على كتابة الألواح ، وتصحيح رسمها لتدريبهم على الرسم القرآني . وفي أحد الأيام اضطر أبي إلى منعي من الذهاب إلى الكتاب حتى أعينه على استقبال ضيوف له ، فبقيت معه لأساعده . ولما ذهبت بعدها إلى الكتاب متأخرا لم يستسغ الفقيه تأخري ، بدعوى أن ذلك فوت عليه فرصة الذهاب إلى السوق . فغضب مني ، وقرر معاقبتي ، فضربني ، برغم أنني شرحت له الأمر ، مع العلم أنني لم أتعرض ، قط ، للضرب يوما من لدن أي كان ، ما عدا مرة واحدة ضربني فيها الفقيه السي لحسن ، في سوق الغاسول . والسبب ، أنني كنت مواظبا ومجتهدا ، ولم أكن أرى أي سبب للعقاب . أما قصة تعرضي للضرب من لدن الفقيه السي لحسن ، فقد بدأت حين دخلت عليه في الكتاب مرة متأخرا ، فوجدثه مستغرقا في النوم ، ولما هممت بأخذ لوحتي المعلقة إلى الجدار الذي كان متكئا عليه ، تحلق الطلبة من حولي ، وحاصروني على مقربة منه كي يستفيق مذعورا . لما أفاق ضربني ضربة خفيفة ، شعرت أنه لم يكن يتغيا من خلالها سوى البرهنة على أنه لا يميز بيني وبين باقي الطلبة ، أما مولاي امحمد ، فقد حاول ضربي بقضيب كان يمسكه ، لكنني لم أمنحه الفرصة للقيام بذلك، بحيث رفعت ضربته فأصابت الحائط بدلاومني، و تكسر القضيب. عندها قلق الفقيه ، وسألني إن كنت أحاول أن أضربه .
حاول مرة ثانية القبض علي ، وطلب من الطلبة مساعدته على ذلك لكنهم لم يستجيبوا له ، نظرا لأنني كنت بالنسبة إليهم أستاذا بديلا وبالتالي فقد كانوا يخشون أن أعاقبهم أثناء غيابه ، كان من بينهم طالب يسمى لحلو ، حاول أن يقبض على فضربته بمرفقي ، فتنحى عن طريقي بلفة وحة برجلي اليسرى ال أ . ولما أقبل الفقيه ليمسك بي ” جمعتو بنص ” : أي خطفته ، ، خطفة من رجليه ، فسقط أرضا ، وعدت ، للثو ، إلى المنزل . تغيبت عن الكتاب مدة ثلاثة أيام ، دون أن يعلم أبي بذلك ، وكان استمرار الفقيه في استغلالي ريثما يتسوق . لما علم أبي بتعيبي سالني فأجبته عن رغبتي . كان أبي متفقا معي ، لكنه نصحني أن أطلع الفقية مولاي امحمد أولا ، وأن أسترضيه ، وأطلب موافقته حتى أحظى ببركته . لم أكن متفقا مع رأي أبي ، ولذا رفضت أن تطأ قدماي الكتاب ، من جديد . اعتقدت أن أبي ، الذي ما سبق وضربني قط ، لم ينصفني في ذلك الموقف حين هددني قائلا :
– إذا ما مشيتي ، أولدي طلبت موافقة الفقيه ، ما غادي تكون عندك بركة . وإلا غادي نديك ليه مكبل .
كان لهذا التهديد وقع خطير في ذهني ، لأن طريقة التكبيل ذكرني بطالب زميل كبله أبوه لكثرة تغيبه ، مع العلم أن تفاصيل تكبيل كان لها وقع خطير على نفس كل شخص : إذ يؤتى بالمعاقب إلى هاد ، في سوق الجدادين ، ليصنع له ” اكبـل ” ، على شكل خلخال يكبل عه ، ثم يغلق بقفل ، فلا يستطيع الهرب . ولما أتى الأب بابنه إلى الكتاب صعد الدرج على يديه ورجليه المكبلتين . وهو منظر أثري كثيرا ، حرته حين قال لي أبي سأكبلك فأجبته ، في طويتي :
إذا حصلت علي ، يمكن لك أن تعمل لى أكثر من الكبل . وانصرفت .
فكرت في أن أغادر مراكش . وكان لي صديق يسمى سي محمد بلفقيه ، تربطني به صداقة متينة يطبعها التقدير والاحترام ، التقيت به وحكيت له ماجرى لي مع أبي ، ثم أخبرته أنني أنوي مغادرة مراكش . فسألني – إلى أين ستذهب ؟. لم تكن لدي أي فكرة عن الوجهة التي يمكن أن أقصدها ، فاقترح علي الذهاب إلى الصويرة لدى صديق له يسمى سي محماد أوعبد الله أوبلا . بعبد سافرت إلى الصويرة ، وكانت أول مرة أغادر فيها مراكش وحدي ، وأنا في الخامسة عشرة من عمري . كانت مغامرة بالنسبة إلى . اتصلت أوبلاً ، وأخبرته أنني من طرف صديقه بلفقيه من مراكش ، فاستقبلني بحفاوة ، بدأت أبحث عن وسيلة للعيش ، في هذه المدينة . وبفضل ما كنت قد تعلمته ، في مراكش من بعض الحرفيين ، ومن بينهم ” خياطو الجلابيب ” ( تقشاشبيت ) ، حيث كنا قد تعلمناها أنا وأخي سي محمد على يد خياط صديق لأبي يدعى ” ازويتن ” . رافقني سي عبد الله أوبلا إلى خياط ي الصويرة ، فاشتغلت لديه مدة . لكن الدخل اليومي كان ضعيفا . اشتغلت معه إلى أن جاءت فرصة بواخر محملة بالقمح كانت ترسو بمرسى الصويرة . فاشتغلت ، في رصيف الميناء ، محاسبا ، أسجل الحمولات المأخوذة من الباخرة إلى الرصيف . هكذا صرت أربح أجرا أكبر يصرف لي أسبوعياً . كان الخياط عبد الله الملقب ” بالمجوط ” الذي اشتغلت لديه ، رئيسا ة لفرقة كرة القدم . وحينما بلغه أنني أتقن اللعبة ألحقني بفرقة هناك ، فتعرفت حارس مرمى هو ” الركراكي ” ، وصرنا صديقين . وبالصدفة كان أبوه صديقا لأبي ، وكان على علم بغيابي عن مراكش ، وببحثه للاعني . لما تسرب خبر وجودي في الصويرة ، وأظن أن ذلك ثم عن طريق بعض التجار الذين كانوا يتعاملون مع والدي ، التقيت وإياه في دار الركراكي ، وعدنا إلى مراكش .
شعرت ، عند عودتي ، أن أبي قد أحس بالذنب تجاهي ، وأدرك أن لي هو الذي كان سببا في جميع تلك المشاكل . لم يوجه إلي أي عتاب ، بل أقام على شرفي حفل استقبال بحضور أفراد الأسرة ، بعد مدة اقترح علي أن أمارس التجارة إلى جانبه . وافقت لبعض الوقت ، لكنني شعرت بعدم رغبتي في الاهتمام بهذا القطاع . فقد اكتشفت ، من خلال ممارستي الوجيزة للتجارة ، أنها ميدان للغش ، والتدليس ، والكذب * التعامل ، زد على ذلك أن رغبتي في استئناف الدراسة كانت كبيرة . إضافة إلى اشتغال أبي بالتجارة ، كان يمارس عمل ” اجنايني ” : يعني أنه كان يشتري ” الجنائات ” الخاصة بالزيتون ، والبرتقال : كجنان مولاي الحاج في تامصلوحت . كما كان يشتغل بتربية المواشي ، وخصوصا تربية الأغنام ، ويعدها إلى الجزارين ، ولعيد الأضحى . وكان من جهة أخرى يتوفر على ملكية دكاكين كثيرة ، في سوق ” الحايك ” : أي سوق منتوجات الحياكة . كان عملي مع أبي يتمثل في تسجيل جميع عمليات البيع والشراء ، في الفلاحة ، والتجارة . وأثناء الحرب العالمية الثانية كان أبي يتاجر في بيع الحياك وشرائها ، وهي تجارة عرفت ازدهارا عن طريق ” الدلالة ” نتيجة ضعف التبادل الدولي ، وكنت ساعده الأيمن في هذه الأعمال . كنت أحضر إلى ” الدلالة ” ، وأشتري المنتوجات التي كان يبيعها لمن يرتادون الأسواق الأسبوعية ، وفي منطقة الرحامنة ، كان يشتغل في تربية المواشي ، لأن هذه المنطقة مشهورة بجودة ماشيتها . كان يساعد الأهالي في الفلاحة ، وفي بيع الأبقار كذلك ؛ كما كان يتوفر على حوانيت لبيع اللحوم ، في سويقة رياض العروس ، وفي سوق الجزارين الواقع ما بين نهاية سوق النجارين وباب ” الرحبة القديمة ” . مر عام على هذه التجربة ، وفي آخر السنة قمنا بعملية جرد تخليت بعدها عن الاهتمام التجارة ، وشرحت له عدم استعدادي للاستمرار فيها ، فتأكد له أن كان هو الدراسة . هذه الأثناء التحقت بجامعة ابن يوسف . نقطعت عن العمل التجاري ، ولجت إلى جامعة ابن يوسف ، لأنني الذي كنت أشتغل فيه بالتجارة كنت أتهيأ للدخول إليها . كان ذلك هو هدفي الأول ، ولذا ما كنت أشتغل إلا لأجل تحقيقه ، هيأت نفسي بالاطلاع على بعض المتون ، التي ستساعدني على ولوج هذه الجامعة . ومتن ابن عاشر ، الذي يفتح باب الفقه . حفظت بعض المواد الأولية ، كمتن الاجرومية ، وهو مدخل إلى مادة النحو ، كنت أتلقى هذه الدروس عن ” ابا سيدي ” ، لأنه كان رجلا فقيها ، وكانت علاقتي به متينة ، وهو ما جعلني أصحبه ، في كل جلساته ورحلاته ، إلى أمسيات خاصة بالموسيقى الأندلسية كان ينظمها كل يوم خميس بعد الظهر ، يحضرها فنانون كبارا من المولعين بهذا النوع من الموسيقى ، ومن بينهم رئيس الجوق الأندلسي ” الصبان ” . كان ” ابا سيدي ” يفرش صحن دار قاعة ” بناهيض ” من الظهر حتى صلاة المغرب لاستقبال الضيوف ، وعليه ، صرت مولعا بالموسيقى الأندلسية ، وبت أنشد البيتين . كان صوتي جميلا يشنف أذن ” ابا سيدي ” ، والحاضرين . كانوا ينشدون قصائد الملحون كذلك . كما كان عمي يصطحبني إلى الزاوية الدرقاوية في حي القصور كل يوم جمعة بعد الظهر . كان عمي يطلب من والدتي أن تلبسني أحسن ما عندي من الملابس ، وبدأت أحفظ بعض الأدعية ، وأقوم بالإنشاد ، وبدأ أهل الزاوية يعجبون بإنشادي ، وهم في حالة ” العمارة ” : أي الجذبة . كما كنت ، من حين لآخر ، أرتّل بعض الآيات القرآنية .