كان جميع الطلبة متضامنين إلا أربعة منهم افتضح أمرهم : إذ كانوا جواسيس يتسقطون أخبارنا لفائدة الإدارة الفرنسية . وبرغم ذلك نجح الإضراب . زاوية لحضر ، لمعرفة دواعي الإضراب . وأثناء اللقاء إثر هذه الأحداث ، حضر الباشا الكلاوي إلى إدارة ابن يوسف ، في اللجنة مع أعضاء أخبرناه بتضامننا مع طلبة جامعة القرويين وعلمائها ، نظرا لتدخل إدارة مؤسسات التعليم الأصيل ، كما هو منصوص عليه في معاهدة الحماية الحماية في شؤون الجامعة ، مع العلم أنه ليس لها الحق في أن تتدخل في الـ لأن التعليم الأصيل هو من اختصاص الملك ، والمسائل الدينية لا دخل للحماية فيها . إذاك انفعل الكلاوي ، وخاطبنا بالقول : ند يد ال – أنتم تضامنثم مع فاس ، وفاس تحت نفوذ البغدادي ، ومراكش تحت نفوذي . ال ال فما كان من بوشعيب الدكالي والفكيكي وأنا نفسي ، ونحن ممثلي اللجنة ، إلا أن عبرنا عن موقف طلبة ابن يوسف من تدخل إدارة الحماية في اختصاصات الملك . حينها صرخ الكلاوي ، في وجوه معاونيه ، بكلمته المشهورة : – – ” هزو الكلب ” . أخذوا كل واحد منا من ” قب ” جلبابه ، من زاوية لحضر إلى حيث دار الباشا : ” استينية ” تحت أعين الناس بما يسمى ” بالشوهة ” ، وأعطى الباشا أوامره لكي نجلد ، نحن الثلاثة ، أربعمائة جلدة لكل واحد منا ، ويجلد باقي أعضاء اللجنة مائتي جلدة ، لأنهم لم ينبسوا ببنت شفة في حضرته ، ولأنهم اعتبروا من ثم غير متجرئين على الحديث مع الباشا . كل من . كان الناس يسمون مكان الجلد : ” ساحة الشبيح ” . هناك كان يجلد و خالف أوامر الباشا ، سواء من الوطنيين ، أو من القواد . والمكان عبارة – عن ساحة مربعة ، محفورة على شكل صهريج نثروا فيه الرمل ، وبنوا فيه أربع سوار صغيرة متقابلة ، في كل سارية اثنان من ” المخازنية ” . يقيدون رجلي المحكوم بالجلد ويديه بحبل كي لا يستطيع الحركة ، يمينا ولا شمالا ، فيبدأ الجلد . ويتكفل به اثنان بالتناوب ، يجلد الأول خمسين جلدة ، يتم تحت أنظار مخزني . ثم يسلم ” أرفـل ” ، أي أداة الجلد ، إلى الثاني ليستريح الأول . وكل هذا يتم تحت أنظار مخزني، مكلف بالاشراف على العملية من اولها الى اخرها. وهذه عملية تعذيب كان الباشا يتفنن فيها ، وتفضح سلوكه الشرس مع مخالفيه ، كما تفضخ خيانته للوطن.
هكذا عشنا هذه المشاهد ، وكذلك تحملناها .
كان العدراوي يشرف على عملية الجلد، وهو احد المتعاونين مع الباشا يعد الضربات المتراوحة بين مائتين ، أو أربعمائة جلدة ، وكان الجلد يتم على الإجابة : وهي مقعد الانسان ، وإذا استعمل الجلاد الة الجلد بطريقة قصيرة ، كأن يضرب برأس آلة الجلد المسماة ” أزفل ” ، يقول له المراقب طول و اذا طول يقول له قصر حتى ينتهي الجلد.
بعدما جلدنا تركنا في المكان نفسيه لا نقدر على الحركة ، ولا نستطيع الجلوس ، وآلام ” أزفل ” تكاد تلتهم جلودنا . ونحن على هذه الحال ، سمعنا أصوات الطلبة يحتجون أمام دار الباشا تضامنا معنا ، استقبلهم الكلاوي مع المخازنية ومساعده الأيمن الحاج إيدار . كانت تلك أول فرصة سيتكلم فيها الفقيه البصري ، بعد أن رشحه الطلبة لتمثيلهم أمام الباشا الكلاوي . أكد للباشا قائلا : – إننا متضامنون مع جامعة القرويين ، ومع إخواننا المعتقلين لديك ، ونطالبك بإطلاق سراحهم . فأمرهم الكلاوي بكلمته المعروفة : ” هزو الكلب ” ، فاعتقلوه ، وألحقوه بساحة الشبيح . إثر ذلك حضر أحد الطلبة ، وهو توفيق العياشي ، الذي تسقط خبر الاحتجاج أمام دار الكلاوي ، فالتحق بهم ، واقتحم مكتب خليفة الكلاوي بالمكي . ولما سأله الخليفة عن سبب مجيئه ، أخبره أنه جاء ليلتحق بالطلبة ، فنصحه بالإعراض عن تلك المجازفة ، حينها قال له توفيق العياشي : -أنا متضامن مع الطلبة ، وخصني نكابل ( = تقابل ) الباشا. وكان لا يتقن النطق بالقاف ، وأضاف : – كلا ، لا بد أن نلتحك ( = نلتحق ) بهم .
وبعد تصميمه على الدخول عند الكلاوي أدخلوه ، فوجده يتحدث عن الفساد المستشري في فاس ، فانبرى له الطالب العياشي ، وقال له – إذا كان من مسؤول يجب محاسبته عن الفساد ، فأنتم ي طليعتهم فردد الباشا كلمته المشهورة : – ” هزو الكلب ” . وبذلك صرنا خمسة ، كما كان أحد الطلبة من مدينة سطات طويل القامة ، لا أتذكر اسمه ، قد صرح أمام الطلبة ، قائلا : – نحن جئنا هنا لنقتل ، أو نقتل فكان مصيره الالتحاق بنا ، فجلدوه ، ووضعوا الفلفل الحار : ” الفلفلة السودانية ” ، في فمه . بعد هذا المشهد ادعى بعض الطلبة أنهم تعرضوا بدورهم ، لحك الفلفل في أفواههم ، وقالوا : – كلنا اكلنا لعصا ، أوحكولينا الفلفلة في فمنا . وهذا غير صحيح ، فالذي تعرض لهذا الموقف طالب من مدينة سطات دون سواه . بعد كل هذا ، طرد الطلبة بالعصي ، وبقينا نحن الخمسة ، وكان الطالب توفيق العياشي يجلد ، فيصيح : – أحد أحد . استوفوه حصته . اقتداء ببلال ، مؤذن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، إلى أن بعد الجلد ، في دار الكلاوي ، أُدخلنا إلى ” لبنيقة ” : ( الزنزانة ) ، تمددنا على بطوننا لأننا لم نكن نقوى على النوم على الظهرة اليوم التالي جاءنا العذراوي ، الذي أشرف على عملية الجلد ، بالفطور من دارالكلاوي : – جاب الصينية ، والكيسان دلبلار ، والمقراج ، وجابو الماكلة في ” المكاب : ثلاثة أنواع ديال الأكل ” . ففتح ” لبنيقة ” ، وأخبرنا أن الكلاوي تيصبح علينا وهو الذي ارسل لنا الفطور .
فقلنا له : ـ ادي ليه ذاك الفطور ، يفطر به هو . لكنه بدأ يستعطفنا ، ويدعو لنا ، وأخبرنا : الباشا ويزور من هو اهم منكم ، وكول عملته مائة متر، و لا يعاكسه في القول ، وأنتم طلبة فحسب ، وها أنتم عاكستموه ، وخالفتم رأيه .
فقلنا له : – هز ذاك الشي اديه له ، يفطر به هو . صممنا على رفضنا ، فيما بقي يحاول إقناعنا إلى حدود الساعة الحادية عشرة ، ونحن مصرون على الرفض . فما كان منه إلا أن أخذ شفاؤنا أطلقوا سراحنا . بتلك البتور ، التي كانت ظاهرة على ظهورنا من شدة التعذيب . ولما عن لهم عدته ، وفطوره وانصرف . تم الاحتفاظ بنا مدة ، لأنهم لم يريدوا أن نخرج اتصل الطلبة للتوبالحزب ، وأخبروه بما حدث ، كما بدأت الصحافة تتحدث عنه ، وفي طليعتها جريدة العلم ، التي نددت بمعاملة الكلاوي : فعمت القضية أطراف المغرب ، وخلقت ضجة كبيرة بلغ صداها إلى محمد الخامس ، عمل الكلاوي كل ما في وسعه لتُستأنف الدراسة في الجامعة ، لكن الطلبة رفضوا ، وتشبثوا بموقفهم القاضي بمقاطعة الدراسة ، وبرغم أن جل الطلبة فقراء ، وينحدرون من البادية ، فقد تركوا سكناهم ، وأعرضوا عن تلك ” الخبزة ” ، التي كانوا يتلقونها في جامعة ابن يوسف ، وبقوا بدون معيل . بلغ التضامن أقصاه حينما بدأت الأسر المراكشية تكرم كل الطلبة ، وكان ذلك بمثابة درس في التضامن ، وفي النضال حيث فتح المراكشيون أبواب دورهم لهم ، في أوقات الغذاء ، والعشاء ، وحتى النوم ، وهو ما جعل الطلبة يصمدون أمام مغريات الإدارة الفرنسية . فلم يجرؤ أحد على تكسير وثيرة الإضراب ، إلا أولئك الأربعة ، الذين بدأت الصحافة بوصا الصحافة الحائطية تتحدث عنهم ، واصفة إياهم بالخونة و خصوصا الصحافة الحائطية .
باتت جدران المدينة ملطخة بأسمائهم ، ومنوهة بالمضربين ، ومستنكرة لأعمال الباشا محاولة لتشويه سمعته أكثر . وفي الاخير أطلقوا سراحنا بعد تدخل واحتجاج محمد الخامس على الإدارة الفرنسية ، لأنهم لاحظوا أننا شفينا من الندب ، التي حملتها أجسامنا من فرط السياط . وبعد استئناف الدراسة برزت فكرة تأخير موعد الامتحانات نظرا للمدة ، التي تعطلت فيها الدراسة بسبب الإضراب ، فرفضنا ذلك ، وتشبثنا بمواعيد الامتحان ، التي كانت مقررة من قبل ، لأننا كنا نناضل ونجتهد ي الوقت ذاته : أي أننا لم نكن نناضل على حساب الدراسة ، لأنها بالنسبة إلينا جزء مهم من نضالنا . لم تكن إضراباتنا تهربا من الدرس ، أن نبرهن على أننا قادرون على استئناف دراستنا ، وعلى استئناف النضال بالدرجة نفسها . اجتزنا الامتحانات ، وكان عدد من المتتبعين يترقب رسوبنا ، لكننا نجحنا مع أن جلنا كان يمارس حرفا موازية للدراسة تراوحت نتائج الامتحان بين ميزة حسن ، ومتفوق ، ومع حلول العطلة احتفل بنا أعضاء الحزب ، في الدار البيضاء ، وفي الرباط ، فكانت مناسبة تعرفنا فيها عدة أطر من الحزب ، في المدينتين السالفتي الذكر . كان الاحتفال رائعا . أعطتنا هذه القضية نوعا من المصداقية ، وزادتنا وثوقا في أنفسنا ، فأصبحنا محط ثقتهم . قررنا السفر إلى أكادير ، فمنعتنا الإدارة الفرنسية لما لاحظت أهمية الاستقبال ، الذي حظينا به في الدار البيضاء ، وفي الرباط ، لأن أهل أكادير كانوا قد وجهوا لنا دعوة لزيارتهم . كما تكرر المنع لتلبية دعوة الحزب في مكناس . كل هذا أعطى دفعة قوية لحزب الاستقلال ، بحيث اعتبر أعضاؤه أن ما قمنا به في مواجهة الكلاوي كان جرأة كبيرة من لدننا ، لأنهم كانوا يعتبرونه طاغية لا يجرؤ أحد على مواجهته ، فقد حفزت الاصطدامات معه الوطنيين على النضال ، وزادتهم قوة في المواجهة ، ومما قوى الحماس ، في جميع شرائح المجتمع المغربي ، في أنحاء البلاد ، أن طلبة عاديين استطاعوا أن يقفوا في وجه الطاغية الكلاوي ، وينالوا رضى الجميع ، وتعاطفهم .