الباب الثاني
نقل تجربة النضال من مراكش الى البيضاء
الفصل الأول : فعالية تنظيم المقاومة في مراكش والبيضاء اعتقال
محمد الزرقطوني وانتحاره لإنقاذ الحركة
في الوقت الذي اعتقلت فيه جماعة مراكش ، كانت وضعيتنا صعبة بالنسبة إلى الدار البيضاء ، فقد وقعت لنا عدة مشاكل ، هناك . كان تركيز عمل المقاومة ، في مدينتي مراكش والبيضاء ، سببا مباشرا في هذا الحصار المضروب علينا من لدن الأمن ، سواء بالنسبة إلى الدار البيضاء ، أو بالنسبة إلى مراكش ، والحصيلة أن محمد الزرقطوني كان قد تورط ، أثناء تأطيره لبعض الخلايا ، في فاس ؛ إذ كانت له علاقة مع البشير شجاع الدين ، المدرس في إحدى المؤسسات التعليمية في الدار البيضاء ، كان الزرقطوني صديقا له ، ويثق فيه ؛ إلا أننا اكتشفنا ، في الأخير ، أن البشير كان ضمن التنظيم ، ومن المؤسف أن محمد الزرقطوني كان يشاوره في أمور كثيرة ، فيما نحن لم نكن نثق فيه . ومما زاد الطين بلة أن اقترح البشير شجاع الدين على الزرقطوني شخصا آخر ، في فاس . ونظرا لطبيعة الزرقطوني ، المتصف بالاندفاع وحب المغامرة ، اتفق مع البشير أن يربط له اتصالا مع هذا العنصر الفاسي ، ليدبرا معا ، أمور إحدى العمليات النضالية . فحدث أن ألقي القبض على العناصر المنتمية إلى مجموعة فاس ، عقب تنفيذ العملية الأولى ، فاعترفوا بالبشير ، الذي ألقي عليه القبض ، في الدار البيضاء ، ثم رحل إلى فاس ليقابل مع عناصر تلك الجماعة ، اضطررنا إلى أن ندخل في مفاوضات مع بعض رجال الأمن ، الذين كانوا يتعاملون معنا مقابل رشوة ، لإطلاق سراح بعض أعضاء المجموعة ، وكان ذلك أمرا جاريا ، عندما يلقي القبض على شخص من عناصرنا الخطيرة ، ندفع لهم مقابلا فيضم ملفه إدانات بسيطة ، فيطلق سراحه من بعد .
عندما القي القبض على البشير دخلنا مع بعض رجال الأمن في مفاوضات لنحمي الزرقطوني ، لكن في الوقت الذي اعترف فيه البشير تحت التعذيب لعب رجال الشرطة لعبة خبيثة ، إذ أشاعوا خبر إطلاق سراح هذا للزرقطوني ، الذي كان قد غير مكان سكناه ، متخذا دار عبد الرحمان الورداني مقرا لاستقرار زوجته ، ولما بلغه بأن البشير سيطلق وسيعود إلى الدار البيضاء تسرع محمد الزرقطوني ، بدون والحذر ، ورجع إلى داره الأولى ، في سيدي معروف ، مصطحبا زوجته ليقضي ليلته هناك . لم يكن أحد منا يعلم بهذا ، ولم يكن من حق الزرقطوني أن يتصرف كذلك ، لأننا اتفقنا على أن أي تغيير في تحركاتنا لابد أن يتم إخبار التنظيم به لأخذ الاحتياط اللازم . إلا أنه بادر ، والتحق بداره . وأثناء الليل حضرت عناصر الشرطة ، قرعوا الباب ، ولما علم بوجودهم تناول السم لأنه كان مستعدا لكل الاحتمالات . سراحه الحيطة كان يطمئننا دائما ، نظرا لمعرفته بكل ما يجري في التنظيم ، وبأمكنة الأسلحة ، إلى غير ذلك ، لأنه كان عنصرا أساسا داخل التنظيم ، وشخصا عظيما ، وإن كان مندفعا بعض الشيء ، لذلك كنا نحذره كي يتخذ الاحتياط اللازم ، فلم يكن يأبه . سألنا عنه ، في الصباح الباكر ، فأخبرونا بأنه توجه إلى داره ، فما كان منا إلا أن التحقنا به . ومن الألطاف الخفية أن زوجته السعدية انتبهت لأمر لافت ، فقررت أن تقف في نافذة مطلة على زقاق يشرف على ساحة سيدي معروف ، يرى منه الرائح والغادي ، حتى إذا رأتنا متوجهين إلى بيت محمد- إذ كنت أنا والحسين برادة أول من زاره لنتأكد من وجوده على عتبار أننا لم نكن نعلم باعتقاله -أخرجت يدها من النافذة ، ولوحت لنا أن حتاط . وكلما شاهدت أحدا من عناصر الحركة إلا وتشير إليه أن نصرف ، بعد رجوعنا جاء الفقيه البصري ، كذلك ، فأشارت إليه بالانصراف . الزرقطوني سيارة من نوع ” دو سوطو ” ستعملها ، في تحركاتنا ؛ اتجهنا صوب المرآب فلم نجدها ، فعلمنا أن لاعتقال قد شمله ، بالفعل . ولكي نتأكد أكثر توجهنا إلى المكان ، الذي كان يوجد فيه ، قبل عودته إلى داره وقبل أن يعلم بأن البشير سيطلق سراحه فاخبرنا انهوعاد الى بيته .
على أي حال ، وجه بعض عناصرنا التهمة إلى عائلة زوجة البشير ، مورطين والدها ، إذ اتهموه بأنه هو من بلغ رجال الشرطة اما في ما يخصني ، فإنه من غير الطبيعي أن أنهم أحداً ، دون دليل قاطع ، ولذلك أجريت بحثا للتأكد من أي دور لعبته أسرة زوجة البشير مع الشرطة ، فلم يتضح لي ما يثبت ذلك ، ولذلك لم أتهم أحدا ، فيما ظلت قناعتي تدفعني إلى أن أحمل مسؤولية توريط البشير إلى شخص واحد ، الا وهو الزرقطوني نفسه . وهناك احتمال آخر ، وهو أن رجال الشرطة لعبوا هذا الدور ، وأوهموا والد زوجة البشير حتى طمأنوه بأن ملف قضية هذا الأخير قد طرح جانبا ، فشاع الخبر . كان خبرا مزيفا الغرض منه هو استدراج الزرقطوني لأجل اعتقاله . وضعنا اعتقال محمد الزرقطوني في وضعية صعبة ، بحيث كان علينا أن نغير بسرعة مواضع كل العناصر ، التي كانت له علاقة بها ، وكذا الأماكن التي يوجد فيها السلاح ، اشتغلنا بسرعة البرق ، أبلغنا كل من يعرف تنظيما أو جهة فيها ذخيرة سلاح يعرفها الزرقطوني ، بأن ينقلها إلى مكان آخر ، بقيت أتنقل اليوم كله ، لأنني كنت على علم بأمور أطلعني الزرقطوني بها ، ويجهلها جل أعضاء التنظيم ، إن لم يكن كلهم ، أذن المؤذن لصلاة المغرب ، وكنت قريبا من سكني أحد العناصر وهو لحسن الشيظمي ، كان على معرفة بالجماعة التي كانت تنشط في ” كاريان سنطرال ” . التحقت به صحبة شخص ليختبئ عنده ، فأخبرني لحسن الشيظمي بأنهم ألقوا القبض على أحد العناصر المهمة ، سألته : من يكون ؟. وما اسمه ؟. قال لي : – شي واحد ، أسمو لزرق . سماه كذلك ، لأنه لم يكن يعرفه ، ولكوننا كنا نغير أسماءنا حتى نموه ، ثم أضاف : راه كال السم ، ومات في الكوميسارية ومن شدة فرحي ، برغم أن محمد الزرقطوني أخي ، وعزيزي ، ورجل لحسن الشيظمي عناقا حارا ، وهنأته بمناسبة وفاة محمد عظيم ، وشهم ، ومقاوم كبير ، ومخلص للوطن : برغم كل هذا ، عائشة الزرقطوني الخطر ، الذي كان يتهدد الحركة ، قد زال ، وأن الزرقطوني ضحى بحياته معبرا بذلك عن اطمئناني على سلامة باقي التنظيم . كان ذلك معناه أن من أجل الوطن ، ومن أجل الجميع . وكنا نعرف أنه كان يتمتع بهذه الإرادة ، وكان كلما نبهناه لأخذ الاحتياط اللازم ، يحدثنا عن السم ويقول رحمه الله : – لا تنزعجوا ، أعمالي سأنجزها ؛ وإذا ما وقعت بين أيديهم ، ساتجرع پر كذلك كان ، وكذلك أنجز محمد الزرقطوني ما كان قد وعدنا به . قضى نحبه ، ولكن العمل ، الذي تركه في تنظيم المقاومة ، لم يمت قط أدركنا أنه لا بد من تطوير الحركة على أن يكون جيش التحرير كما كنا قد اتفقنا عليه في حياة الزرقطوني ، هو القوة الفاصلة بيننا وبين القوة الاستعمارية ، فقررنا تفعيل توزيع المغرب إلى ثلاث مناطق : المنطقة الشمالية ، والمنطقة الوسطى ، ومنطقة الجنوب ، وإحصاء الإمكانيات التي لا بد من توفرها ، وتحديد كيفية الاشتغال والتحرك وفقها . ففي المنطقة الشمالية ، التي كانت تحت سيطرة الإسبان ، كان للاجئين إليها إمكانيات كبيرة للتحرك بعيدا عن مراقبة الفرنسيين ، بحيث استطاعوا أن يكونوا نواة لجيش التحرير في الشمال ، وكان من بين الإستراتيجيات ، في هذه المنطقة ، استثمار عنصر حرب الريف ، والاستفادة من تجاربها السابقة ولذلك وجهنا اهتمامنا إلى العناصر ، التي كانت قد ساهمت ، مع محمد بن عبد الكريم الخطابي ، في حرب الريف ، خصوصا وأنهم لازالوا على قيد اسع بحرب العصابات ، الحياة ، آنذاك ، برغم تقدمهم في السن ، وما زالت لهم تجربة كبيرة ، وإلمام بالنسبة إلى المنطقة الوسطى ، التي كنا نعتبر الأطلس حجر الزاوية يها ، كان لنا سند في شخصية نثق فيها ، ولها علاقة وطيدة بالمنطقة : الا هو المسمى بن عمر . كلفنا هذا الأخير بهذه المنطقة لكي يقوم بدراستها ، ويطلعنا على الإمكانيات والأشياء التي يجب أن نهتم بها ، وما هي ظروف الاشتغال في مسالكها الوعرة .
وأخيرا منطقة الجنوب ، التي وقع الاتفاق على أن أتولى ، شخصياً ، الاشراف عليها . بعد ذلك الاتفاق ، كان التوجه إليها يتطلب مدة تزيد عن الشهر أو الشهرين ، على الأقل . ولأجل القيام بهذه المهمة ، كنت قد اتصلت بحمان الفطواكي ، ومحمد الزرقطوني كي يتتبعا الحركة ، في مراكش ، أثناء غيابي في الجنوب . وبما أن الزرقطوني كان كثير الغياب ، نظرا لتنقلاته المتعددة في كل الجهات المغربية لحل مجموعة من المشاكل ، فقد تقرر أن ينوب عنه الفقيه البصري . وتم الاتفاق أخيرا على أن يتكلف أحدهما بتتبع العمل في مراكش . على هذا الأساس كان القصد من توجهي إلى الجنوب هو تهيىء التنظيمات في إطار جيش التحرير ، وهو ما تم الاتفاق عليه معه رحمه الله ، ولذلك استمررنا في هذا العمل .