الفصل الثاني
التكوين السياسي في زنازين السجون
سجن « اغبيلة » بالبيضاء وتأثيره على المقاومة نظرا للتهم التي ثبتت في حقي وضعوني في زنزانة انفرادية ، ومنعوني من الأكل ، ومن الزيارات لمدة طويلة ، أطول مدة قضيتها ، في زنزانة انفرادية ، كانت في سجن ” اغبيلة ” حيث منعت خلالها من الاتصال بالآخرين ، عانيت أصنافا من التعذيب ، من دون فراش ، ولا طعام ، إلا ما كان متستها يقدم إلي مرتين ، في كل يوم : مرة في الصباح ، وأخرى ليلا . هو نفسه : حمص ، أو عدس مليئان بالحصى والحشرات ، مع ” خبيزة ” ، أي خبزة صغيرة ، لم أكن أتردد في أكل كل ذلك ، دون فرز بين القطنيات وبين ما اختلط بها ، لأنني كنت أتضور جوعا ، وكانت لي مشكلة مع هذه ” لخبيزة ” ، أتناول قسطا منها ، وأحتفظ بالباقي لأتناوله ليلا ، لكن الجوع لا يمهلني حتى يسدل الليل خيوطه فأتناولها عن آخرها . وفي جنح الليل أعاني من شدة الجوع ، ولا أجد ما أسد به رمقي . كنت لا أبرح زنزانتي إلا عندما يلتحق السجناء بغرفهم ، عندها يسمحون لي بمغادرة زنزانتي الانفرادية . ألحقوني ، بعد مدة ، بسجناء المقاومة ، كان من بينهم أحمد الراشدي ، والحسين بن أحمد توتو ، ومحمد بن المكي ومولاي الطاهر العلوي * ؛ كان بن المكي ينتمي إلى منظمة اليد السوداء ، كان هؤلاء جميعهم محكومين بالإعدام ، وكنت رفقة ثمانية سجناء في غرفة واحدة . كانت عادتي ، في أي سجن حللت به ، أن أدرس الوضعية داخله الأكل ، الملبس ، النظافة ، والأنشطة ، فكنت ألزم الجميع بالتنظيم : مثلا نقتسم الأكل ، الذي يتوصل به كل سجين من خارج السجن ، وكذلك الحال بالنسبة إلى الملابس : من يملك قميصين لا بد أن يعطي واحدا منهما لمن لا يملك شيئا . هكذا تنظمنا ، المرحاض مكشوف ، لذلك يتكلف اثنان ببسط إزإر يستتر به كل من أراد قضاء حاجته ، لأنه يستحيل أن تعثر على مسمار ندقه في الحائط وسط التفتيش الدقيق والمستمر .
خلقنا أنشطة ترفيهية ، في سجن ” اغبيلة ” ، اذ انتباهنا الى قنوات الماء فاتخذناها أبواقا ننفخ فيها لتحدث ، من خلالها ، أصواتا تزعج الحراس ، وتقلق راحتهم ، في الليل ، حتى تمنعهم من النوم ، فيضطرون لإغلاق الماء وهو ما كان يسمح لنا باستغلال تلك القنوات لننشيء إذاعة يتواصل ، بواسطتها ، بعضنا مع بعض . حرصنا على أن نستهل برامجها بايات بينات من القرآن الكريم ، يتلوها سجين يدعى محمد بن المكي ، ذو صوت شجي جميل ، كما كان يؤدي لنا أغاني يطلبها السجناء ، وكان أشخاص آخرون يقدمون نشرات أخبار نطلع ، من خلالها ، على ما يجري من أحداث . كما برمجنا ، كذلك ، رغبات للمستمعين جعلت السجناء يطلبون ما يستطيبونه من الأغاني ، وكل من كان يتقن أغنية كان يؤديها . كنا نتذاكر أيضا حول القضايا ، التي من أجلها سجنا ، ونعرض للكيفية التي مرت بها عملية الاستنطاق ، وكيف واجهناها ، وما هي الأمور التي علينا أن نصرح بها ، في تلك المواقف ، والتي لا يجوز لنا التصريح بها ، لأن جل السجناء لم يكونوا يعرفون حقوقهم ، ولذلك نبهناهم إلى كل ذلك : كأن يعرفوا أن لهم الحق في أن يطلبوا محاميا لمؤازرتهم في التحقيق . محاولة الفرار من سجن القنيطرة كثرت الاعتقالات ، فاكتظ سجن ” اغبيلة ” بالسجناء حتى فاق طاقته الاستيعابية ، وكان أن لاحظت إدارة السجن أن هناك سجناء خطيرين ، ومشاغبين ، فتقرر نقلنا إلى سجن آخر . أمرونا بجمع أمتعتنا ، وأركبونا في حافلات ، وأخذونا إلى سجن القنيطرة ، وهو سجن عصري وكبير . وبمجرد ما وصلنا استقبلنا المدير ، وكان شريرا ، ومتعجرفا ، فكان أول ما أمرنا به هو خلع ملابسنا كاملة حتى بقينا عراة ؛ فتشونا ، ولم يبقوا شيئا حتى أنهم فتشوا عوراتنا . أدركنا أنهم كانوا ينوون إهانتنا . صعدنا إلى الطابق الأول ، فاندس كل واحد منا في زنزانة منفردة . اكتشفنا أن في كل زنزانة ” دكانة ” : وهي مخصص للنوم ، وبجانبها مرحاض . كنا نخرج من زنازيننا لنستريح تحت وابل من السب والقذف والإهانة والوعيد من لدن المدير وأعوانه ، ناهيك عن حرص المدير على حرماننا من كل زيارة .كان المدير يفرض علينا أن نبقى واقفين ، واحدا وراء الآخر . ربما كان قد تلقى تعليمات من إدارة السجون ، كي تكون معاملته لنا قاسية ، وربما كانت تلك طبيعته . على كل حال ، فقد كان شخصا متسلطا ، يحرص على أن يهيئنا ويشدد علينا الخناق ، في أوقات الاستراحة ، أو في الأوقات المخصصة للأكل . وبما أننا كنا مجموعة كبيرة كانت لنا مواقف من هذا السلوك التضييقي ، فقررنا أن نقدم ملتمس تظلم ضده . صرنا نتصل بإدارة السجون ، وتطلعهم على سلوكه المشين ، المتسلط ، وبدأنا نضرب عن الخروج إلى الساحة وعن الأكل . وبرغم أن موقفنا لم يزده إلا تعنتا ، وإعراضا عن مقابلتنا ومناقشتنا ، فقد ازددنا تمردا وسخطا حتى اضطري الأخير إلى أن يغير معاملته لنا ، وأن يلين مواقفه منا بعض الشيء ، إذ بات يسمح لنا بالخروج إلى الساحة ، أثناء الوقت المخصص للاستراحة ، فكانت فرصة لأن يلتقي بعضنا مع بعض لنتناقش حول أحوالنا ، ونقوم بحركات
رياضية دفعتنا إلى أن نسعى إلى تكوين فريق كرة القدم , صلنا وجلنا به ي الساحة الفسيحة للسجن . أو من نواحيها ، نظرا لفعالية الحركة النضالية في هذه المدينة . لم نكن وحدنا ، بل انضم إلينا سجناء آخرون ينحدرون من القنيطرة ونظرا لسمعتي الطيبة بين إخواني ، إذ كانوا يكنون لي احتراما يتجاوزون عني إذا ما ارتكبت خطأ في التحكيم كبيرا برغم أنني اكتفيت بأن أحكم لهم المباريات فحسب ، كانوا عكفنا على تنظيم أنشطة موازية لإعطاء دروس في محو الأمية لفائدة غير المتعلمين ، أما بالنسبة إلى الذين لديهم مستوى معينا ، فقد أعددنا لهم دروسا خاصة ، بلغنا بها إلى مستوى قسم الشهادة . وعكفنا ، أيضاً على تنظيم نشاط من نوع آخر ، تمثل في حلقات النقاش السياسي والاجتماعي طرحت خلالها مواضيع متنوعة : من أهمها قضية المرأة . هكذا كانت تسير الأمور ، وهكذا تمكننا من إعادة تنظيم كل شيء ؛ الأكل ، وأوقات الخروج إلى الساحة ، والأنشطة الموازية ، واستقبال الزيارات . كذلك كان هاجس التنظيم يسكنني . في أي سجن حلات أفكر ، أولا ، في تنظيم الأمور مع إخواني السجناء ، محاولا تنظيم وضعيتي ، ووضعيتهم حتى لا تعم الفوضى أثناء الأكل ، أو اللباس ، أو في الفسحات القصيرة . الساعه كانت هناك فكرة تلح علي كلما زج بي في أي سجن ، ألا وهي الفرار قبل أن يصدر في حقي حكم المحكمة ، خطرت ببالي هذه الفكرة ، في سجن القنيطرة ، ولكنني كنت متيقنا من أن إنجازها لن يتم إلا بتعاون مع سجناء صدرت في حقهم أحكام ؛ أما نحن فما زلنا محتجزين ، دون حكم كان من بين من استعنت بهم سجين ينتمي إلى مجموعة أكادير ، التي اعتبر أفرادها بمثابة سجناء سياسيين ، هو المدعو مولاي إدريس . ألقي العمل ، فافتضح أمره هو ومجموعته ، فاعتقلوا جميعا . عليه القبض ، في عمل مسلح ، وكان من المبادرين الأول إلى القيام بهذا تحينت الفرصة ، واتصلت بمولاي إدريس هذا ، أثناء خروجنا إلى الساحة ، استشرته حول كيفية تمكيننا من الفرار من السجن ؛ وطلبت منه أن يستقصي الأمر ، ويطلعني على أي إمكانية للقيام بذلك . تتبعت أدق الإجراءات مع مولاي إدريس ، لكن ذلك لم يعط أي نتيجة ، فأعرضت عن الأمر و نبذت فكرة الهروب اتصلت بعنصر آخر هو بنحمو لفاخري ، فاتضح لي أنه ربما تحدث إليه مولاي ادريس عن مسألة الفرار ، كان لفاخري محكوما مع مجموعة اليد السوداء في الدار البيضاء : وهي أيضا ، من المجموعات الأولى التي سبق أعضاؤها إلى التفكير في العمل المسلح . لم يكن أفراد هذه المجموعة قد اتخذوا الاحتياط اللازم ، لذلك ألقي القبض عليهم ، أو على جلهم ، وهم أكثر من خمسة وخمسين شخصا . بنحمو هذا ، كان مناضلا صنديدا يعرف كيف يربط علاقات متينة مع حراس السجن ، ويعرف من أين تؤكل الكتف ، سعى إلى أن تستند إليه مهمة خولت له أن يتنقل في السجن بكل حرية : وهي صقل الأقفال ومقابض الأبواب المصنوعة من النحاس ، وهو ما دفعنا إلى أن نعتمد عليه ي إرسال المعلومات إلى باقي السجناء الذين يتعذر علينا الاتصال بهم . أسعفنا الفاخري في التواصل مع باقي المجموعات بشكل فعال وسريع ومسترسل صباح مساء ، وكانت له قدرة فعالة على الاتصال بكل العناصر المسجونة ، والمحكومة ، وبحراس السجن ، كذلك . وفي المقابل كان يعمل ما بوسعه ليحصل على السجائر ليسترضيهم بها ، وكان يرشيهم بالأموال التي يحصل عليها ، ولا نعرف من أين يحصل عليها ؛ كانت له قدرة خارقة على إدخال بعض المواد إلى السجن بواسطة هؤلاء الحراس ، فيما يهبهم هدايا يأتيه بها زائروه ليشتري بها صمتهم ، وتغاضيهم عما كان يقوم به . وبمجرد ما تحققت من قدرته الفائقة ومن صدقه طرحت عليه أن نحاول الفرار من السجن ، فبدأ للثوينظر في إمكانية القيام بذلك . وكان أن اهتدى إلى ربط اتصال بألمانيين مسجونين حكمت عليهما الإدارة نسية بالسجن المؤبد ، وكانت لهما علاقة بمعمل الحدادة . اقترح عليهما الفكرة فحبذاها ، وكان لديهما تفاؤل تام في إنجاح عملية الهروب ، لأنهما كانا يدركان أنهما إذا ما تعاونا معنا ، ونجحت العملية فسنحميهما خارج السجن . اقترحا علينا أن تحصل على مفتاح ، فاتصلت بسجين يدعي المختار الطنجاوي : كان محكوما بالإعدام ، فتحول حكمه إلى سجن مؤبد ، وكان مسيطرا على جل ما يقع في السجن ، لأن الإدارة كانت قد وضعت فيه كل ثقتها . فهو الذي يفتح الأبواب ، وهو الذي ک يغلقها . ألفنا أن نراه مرفوقا بسجينين آخرين يحميانه من التعرض لأي اعتداء ، أو ما شابه . برغم ذلك ، ربطت وإياه علاقة جعلته يتأثر بما كنت أحكيه له ، فأبى إلا أن يلبي كل طلباتي ، أمدني بمفتاح يمكن من فتح زنازين كثيرة ، ما عدا الأبواب الحديدية : إذ لكل مفتاحها الخاص بها . سلمته للسجينين الألمانيين ليصنعا لنا مفتاحا مماثلا له ، فأنجزا ذلك وأعادا لي المفتاح الأصل . جربت نسخته ، فاتضح لي أنها غير محكمة الصنع ، حاولنا الحصول علي مبرد ، وعلى ساعة لمراقبة حراس السجن ، وعلى مرأة ، فأمدنا بنحمو لفاخري بكل تلك الأدوات : كانت الساعة لازمة لأجل مراقبة أوقات حضور حراس السجن ، في الليل ، وكان حصولنا على مرأة ضروريا لأجل تتبع أدق حركاتهم ، جانبيا ، من خلال نافذة تشبه شباك التذاكر . لتتبع الحارس إلليلي وملاحظة من هو نائم ، أو مريض ؛ ولذلك يوقد الإنارة بكبسة زر يوجد خارج الزنزانة ، والحارس هو من يتحكم في ذاك الزر إلى حين انتهاء المراقبة الليليلة ، ومن جهتي ، كنت أحرص على ألا تكون الأدوات – المبرد والساعة والمرأة- بحوزتي إلا في الليل ، ولذلك كنت أسلمها إلى مختار الطنجاوي خلال النهار . أما المبرد فلأجل تقويم حواف نسخة المفتاح الأصل ، أضعه في فتحة القفل ، وأرى أين يتعذر مرور أسنانه ، ثم أحكه بالمبرد إلى أن يتيسر توغله في القفل عن آخره . وهكذا إلى أن أصبحت نسخة المفتاح صالحة للاستعمال . . والواقع أن الطنجاوي لعب دورا كبيرا ، في إنجاز هذا العمل ؛ وأنا سيني ، فيقول : ممتن له بذلك . كنت على علاقة خاصة به ، جعلته يردد علي لازمة ، كلما – إذا لم تشارك في هذا الهروب ، فإنني لن أجازف فيه ، لأنني لا أثق في أي من هؤلاء
كان شخصا حلفا، وشرسة كلف بكل السجناء، خصوصا منهم مرتكبي الاعمال الإجرامية الكبرى ، المحكومون بمدد تفوق عشرين عاما . كانت إدارة السجن تثق فيه . ولأجل ذلك ، كانوا يهابونه ، لأنه كان فظا بهيأته الفارعة ، وهندامه اللافت ، ورأسه الأصلع ، وصوته الجهوري , ومما كان يزيد من هيبته حمله ” أرفل : وهو سوط معد للجلد ، يضرب به من يحاول الخروج عن اللياقة : هو من يراقبهم ، ويأمرهم بالالتزام بالنظام ؛ تتفرغ فقط ، لضبط الملفات ، والأمور الإدارية العادية وبذلك خفف عن إدارة السجن ما أسمته : ” اصداع الراس ” ، وخول لها أن وكان أن اتّصلنا ، بواسطة بنحمو لفاخري ، بحارسين مغربيين يتناوبان على برج مراقبة ذي موقع استراتيجي : إذ كلما رصدا من فوقه حركة غير عادية ، يبلغان عنها ، في فضلة من الزمن ، بواسطة صافرتي إنذار . أدركنا أن الحارسين الموكولين بذلك كانا من خيرة الناس ، ولذا ربطنا بهما الاتصال ، لأن عملية الهروب كانت تتطلب إحداث حركة غير عادية في السجن نموه من خلالها عما سنقوم به : مثل خوضنا لمعركة مع الحراس ، ومحاولة استيلائنا على أسلحتهم ، وشاحناتهم … وهو ما يستوجب إطلاق صافرتي الإنذار . لذلك ربطنا اتصالا ، كما أسلفت ، بالحارسين المذكورين . لم يقتصر الأمر على عزمهما الإمساك عن إطلاق الصافرة ، وإنما سهلا لنا أيضا ، الاتصال بأصدقائنا خارج السجن : ينقلان إليهم رسائلنا ، ويمداننا بأخبارهم ، ومستجداتهم ، لأنهما كانا يتمتعان بيسر الدخول والخروج من السجن ، دون مراقبة . كان من المقرر أن يساعدانا على الفرار ، وأن يكونا صلة وصل بيننا وبين إخواننا ، وهم أعضاء في الحركة الموجودة بالدار البيضاء وفي القنيطرة ، حتى يتكفلوا بنقلنا ، خارج السجن ، إلى أن نلتحق بجيش التحرير ، الذي شرع في العمل المسلح ، في الشمال ، كان من بين هؤلاء الأعضاء مولاي علي ، وهو تاجر معروف بوطنيته قام بأدوار مهمة : مثل توفيره للإيواء بالمدينة ، ثم إعداده للترتيبات الخاصة برحيلنا إلى الشمال ، كما كان يساهم في نقل الأسلحة ما بين المنطقتين .