هكذا رسمنا خطة عملية الهروب من السجن . ونظرا للصعوبات الجمة ، التي لاقوها أثناء قيامهم بمهامهم ؛ فإنهم لم يولوا خطئنا الاهتمام اللازم ، لذلك طالت مدة انتظارنا لتنفيذ ما عزمنا على القيام به . وعندما أثقل علينا التأخير ، وضقنا ذرها من جراء الملل أخذت المبادرة بتنفيذ العملية ، سواء بمساعدة حركتنا في الخارج،او دون مساعدتها .
كان الظرف ملينا بالأحداث المتسارعة : محاكمة مراكش ، وكان من الممكن أن يأتوا لياخذوني إلى تلك المحاكمة ، لذلك قررت للفيس العملية ، نظرا لمعرفتي المسبقة بالعناصر ، التي بإمكانها أن تساعدني سواء داخل السجن ، أو خارجه ، وأعني بهم : حمو لفاخري ، والطنجاوي والحارسين المكلفين ببرج المراقبة . فكرت في أن أتقاسم هذا السر مع أحد إخواني ، فخطر ببالي الفقيه البصري ، الذي كان معتقلا معي ، وكانت وسيلة الاتصال بيني وبين بن حمو لفاخري ، في الزنازين ، هي قنوات الصرف الصحي ، إذ بواسطتها نتخاطب . كنا إذا أردنا أن نخاطب أحدا نطلب منه أن ينتقل إلى الزنزانة الموجودة فوق أو تحت الزنزانة ، التي عزمنا على الاتصال بنزيلها ، وهي عملية كانت متاحة ، نظرا لعدم ربط أي زنزانة باسم أي سجين بالنسبة إلى غير المحكومين . أما الحراس فلم يكن يعنيهم من يوجد في هذه الزنزانة ، أو تلك ، المهم ، اتفقت مع بنحمولفاخري على أن أتحدث إليه ليلا ، أمر مهم ، فبادرت بتغيير زنزانتي ، ودخلت إلى الموجودة فوق زنزانته ، وقلت له : – ربما سأنقل من السجن لأعرض على محكمة مراكش . وطلبت منه أن يتصل بالفقيه البصري لأجل التنسيق معه ، برغم أنني كنت أعلم أنه لم يكن يقوى على ضرب أحد الحراس ، أو على الاعتداء على أحد . وفي المقابل ، كان رحال المسكيني ، وبوشعيب الطائك يقطنان زنزانتين تتوسطهما زنزانتي ، وكنا قد خططنا لأن أخرج من زنزانتي ، التي اخترتها لأن بابها لا يوصد ولا يفتح إلا بعد مجهود أعرف كيف أبدله ، وي يدي مفتاح يسعفني بفتح بابي المسكيني وبوشعيب ، حتى يعيناني على القبض على الحارس الليلي . نسجنه وننتظر ؛ ثم نفتح زنازين باقي السجناء ، أخذين بعين الاعتبار المحكومين بالإعدام ، ثم المحكومين بالمؤبد ، ثم العناصر التي ستكون لها قدرة على تفعيل العمل في جيش التحرير هكذا كان المسكيني وبوشعيب مكلفين بمهمة اعتقال الحارس الداخلي ليلا ، ويفتح زنازين من يهمنا من السجناء ، وكان من المقرر أن أوراق من ساحة المقاومة المغربية نهبط بعدئذ إلى الأسفل حيث نفتح زنازين المحكومين سياسيا ، ومن بينهم مجموعة الرباط : عبد الفتاح سباطة ، ومحمد عبروق ، والخصاصي ، دون أن ننسى الطنجاوي . أدخلنا ، كذلك ، في التخطيط أن يقوم السجناء باعتقال الحارس المكلف بعمال المطبخ ليأخذوا منه مفاتيح الأبواب الحديدية . أي أحد وهو ربطت اتصالا بين بن حمو والبصري ، بعدما شرحت لهذا الأخير ما ستقدم عليه ، وفي الصباح الباكر ، فاجأني شيء غريب لم يكن في حسبان ما يمكن أن نصفه بالخراف : إذ دهمني الحراس ، وأمروني بأن أخذ ملابسي ، وأتبعهم إلى الخارج . فوجئ إخواني السجناء بهذا الإجراء ، وظنوا أنني ذاهب إلى الإعدام ، لا محالة ، فخرجوا كلهم يبكون ، ومنهم قصيرة شرحت لهم فيها الموقف ، قائلا : البصري ، الذي بكى بكاء حارا ، ومريرا . وقفت أمامهم ، وخاطبتهم بكلمة – إن الموت لم يعد يخيفنا ، والموت أمر سهل ، في سبيل استقلال بلادنا ؛ والتضحية بدمنا أمر بسيط من أجل خدمة قضية وطننا . الحائط . كان المشهد مؤثراً ، فعلا ، فبقدر ما خاطبتهم ، بقدر ما زاد ذرفهم للدموع . ودعت الجميع ، ولاحظت أن محمد البصري لم يقلع عن البكاء موجها وجهه صوب وكان أن أخذني الحراس ، وأقلوني إلى سجن ” بولمهارز ” ، في مراكش . تأثر إخواني سجناء القنيطرة لأنهم كانوا شبه متأكدين من أنه سيصدر في حقي حكم بالإعدام ، وهو ما كان يجول ، في خاطري ، أيضا . فالفرنسيون كانوا يميلون كل الميل إلى إصدار هذا الحكم ، وتطبيقه على الفور . وكان أن استدعاني ، وأنا رهن بحث الشرطة في أكادير ، قاضي التحقيق في المدينة نفسها ” جوليزو ” ليحقق معي ، ويعجل بضمي إلى العناصر الماثلة أمام المحكمة العسكرية . وهو قاض معروف بصرامته ، وجوره . كان يمارس المهمة ذاتها ، في الجزائر إذ تولى ، هناك ، أمر محاكمة الوطنيين الجزائريين ، في المحكمة العسكرية ، وأصدر في حقهم أكادير ، أحكاما قاسية استدعاني على أساس التحقيق معى في عملية اكادير ، وكان منتظرا ان يحكم على مجموعة هذه المدينة بالإعدام ، كما كان يستعجل أن يثبت في حتى اعترافات ، أثناء التحقيق ليحيلتي بسرعة إلى المحاكمة ، ويصدر في حقى حكما بالإعدام.
رفضت الاعتراف ، وكلما ثارت ثائرته ليدفعني إلى التصريح اتمنع بدعوى أنه من حقي توكيل محام يحضر معي جلسة التحقيق ، ولما الترح على تعيين محام من لدن المحكمة رفضت ، لانني غير معدن ولست 2 حاجة إلى من تعينه المحكمة ، بدلا عني ، ولأنني قادر على تنصيب أي محام أختاره ودفع أتعابه . احتد الصراع بيني وبين القاضي ” جوليزو ” ، ولما تيقن من أنني لن أرضخ لاقتراحه أرسلني إلى سجن 4 تكنة عسكرية * أكادير ، وأعطى تعليماته كي يعاملوني معاملة قاسية قصد إهانتي : كحرماني من النزهات المتاحة ، وتقليص وجبات غذائي . لما وصلت إلى سجن الثكنة ، وضعت ، للتو ، في ” الكاشي ” : وهو قبو زنزانة ، محكمة الغلق ، لا ينفذ إليها نور ولا هواء ، فيه دكانة معدة للنوم ، بجانبها مرحاض ، لا غير ، كان الفصل شتاء ، والبرد قارسا ، وكانت التعليمات ألا أرى نور الشمس ، ولا نور الكهرباء ، ولو من خصاص الباب . صدوا كل الشقوق ، ونزعوا ثيابي ، وتركوني عاريا ، وكانوا يقدمون إلي مرقا طبخت فيه عظام مرة في كل مساء على الساعة السادسة . كنت تضور جوعا ، فقدت الكثير من قوتي ، وأصبحت أتحرك بصعوبة ، نظرا لنحافة جسيمي ، فيما عانيت من البرد القارس ، وصل بي الحال إلى أن طالبت بأن أعرض على طبيب ليتفقد وضعيتي الصحية ، التي تدهورت شكل مخيف ، زارني طبيب ، وكان عسكريا ، فلم يكشف عني ، وإنما قال لي بلهجة دارجة – بغيتي الاستقلال ، ياك ؟. مت ( = أتريد الاستقلال ، فلتمت ) . ثم غادر ، وتركني أقاسي المرض ، والجوع ، إلى درجة أنني كنت ستعدا إلى أن التهم أي شيء ، وفي مرة نظرت من خصاص نافذة قبوي ، ستبين لي أن سجناء كانوا يرمون ما بقي عنهم من خبز في النافذة إلى أن لأوها بقطع خبز متسنه ، وملوث بالغبار والتراب ، فقررت ، في طويتي ألا كل هذا الخبز الملوث ولومت جوعا .
ولكن عندما طال بي الانتظار ، واشتد بي الجوع بدأت أصعد إلى النافذة لأخذ ما بقي فيها ، وقبل أن أتناوله ، كنت أزيح غباره ، وأكتفي بمضغ الباقي ، وإن كان شديد اليبوسة ، ويصعب ابتلاله . وكلما نفد الجزء النقي ، نسبيا ، أشرع في مضغ الخبز الملوث ، الذي لم أكن أجد بديلاً عنه لأسد به رمقي . وكان أن أتيت على كل قطع الخبز المركون في أن أحصل على ما أسد به رمقي . النافدة ، فبقيت أكثر من أسبوعين قضيتهما في سجن الثكنة ، جائعا ، دون بعد ذلك ، أرجعوني إلى الدار البيضاء حيث سجن ” اغبيلة ” ، ومنه إلى سجن القنيطرة ، الذي كنت أتأهب إلى أن أفر منه لولا أن فاجأني أمر تقلي إلى سجن بولهارزي مراكش . التفكير الفرار من سجن مراكش لم أودع زنزانة انفرادية ، بل سجنت ضمن مجموعة من السجناء ، لأن نظام هذا السجن يمكن من اختلاط المعتقلين السياسيين بمجموعة كبيرة من سجناء الحق العام . وقد عاينت ، فور دخولي ، فوضى عارمة وانتشار الأوساخ في كل مكان ، وإهمال السجناء الاعتناء بأنفسهم ، وأحوالهم في لباسهم ، وفي أكلهم ، وفي نظافتهم ، بدأت ، كما هي عادتي ، في تشكيل لجن : لجنة النظافة ، لجنة التموين ، ولجنة تنظيم الأكل المجلوب من لدن أهالي السجناء ؛ أو بالوجبات الغدائية ، التي تقدم لنا من داخل السجن . وطرحت ضرورة التزام السجناء بمبدأ المساواة ، فيما بينهم ، في الأكل ، وفي النوم ، وفي النظافة ، واللباس حتى لا يكون فرق بيننا . نقتسم كل شيء ، سواء جلب من خارج السجن ، أو من داخله . ثم طرحنا مسألة ضرورة التعلم : فالذين نالوا نصيبهم من التعليم يعلمون الآخرين . هكذا ، بدأت أنظم السجناء ؛ غير أن فكرة فراري من السجن بقيت تسكن ذهني ، تلازمني ، ولا تكاد تفارقني . وكان أن اكتشفت ، بالصدفة ، أن في الساحة حجرة معدة لخزن مواد البناء : من سلاليم ، وحبال ، ومخاطيف ، وكل ما يتعلق بالبناء ، كان أول ما فكرت فيه هو أن أفر من فوق السور : إذ كان ، في سجن بولمهارز ، سوران : سور داخلي ، وآخر خارجي . وكان ارتفاع السور الداخلي يصل إلى حوالي أربعة أمتار ، فيما ارتفاع السور الخارجي يصل إلى ستة أمتار . ترصدت نظام الحراسة إلى أن أدركت كل تفاصيله : تبين لي أن الحراس يعمدون ، في الليل ، إلى إحصاء السجناء العشرين أو يزيد ، قبل أن يغلقوا عليهم غرفتهم فيغلقوا الغرف الأخرى ، تباعا ، ثم تبدأ الحراسة الليلية بمراقبة الأسوار ، في وقت يعينه مدير السجن ، ويتم تغيير أوقات الحراسة الليلية ، في كل يوم . وكان إذا مر الحارس بالسور ، تسجل آلة يحملها معه أنه قد مر ، بالفعل ، على الساعة كذا ، أو كذا . وهو إجراء كان معمولا به حتى في سجن القنيطرة . وتسمى منطقة ما بين السورين ب : ” شمال روند ” .