الفصل الثالث
المشهد السياسي قبل الاستقلال
بدء المفاوضات من أجل استقلال المغرب
استمرت المفاوضات بين المغرب وفرنسا ، وتم الاتفاق المبدئي على نقل محمد الخامس من مدغشقر إلى فرنسا ليبقى بها مدة سنتين ، مع تكوين لجنة سموها ” الهيئة الوصية على العرش ” : كان من بين أعضائها الفاطمي بن سليمان ، ومحمد المختار السوسي ، وشيخ الإسلام بلعربي العلوي ، والمعمري . وكان من المنتظر أن تتكفل هذه الهيئة بممارسة السلطة نيابة عن الملك ، وتشكل جهاز الحكومة ، على ألا يعود الملك إلى المغرب إلا بعد عامين من ذلك ، إذاك سيعترف الفرنسيون باستقلال المغرب . كنا ضد هذا الاقتراح ، ولذلك اتفقنا على بعث رسالة إلى الملك محمد الخامس ، نحته فيها على التشبث برجوعه الفوري إلى المغرب ، وبانتزاع الإعلان عن الاستقلال التام من فرنسا ، وإلغاء نظام الحماية ، وعدم التنازل عن أي قسط من كل هذا . بعثناها إليه مع الدكتور عبد اللطيف بنجلون ، ولما توصل بها الملك تراجع عن ذلك الاتفاق الأولي ، وتشيث بالرجوع الفوري إلى المغرب ، كما فاتحنا الحركة الوطنية بأننا لم نكن متفقين على هذا الحل ، مبدين لعناصرها حرصنا على ضرورة العودة الفورية لمحمد الخامس ، والإعلان عن الاستقلال ، وإلغاء نظام الحماية ، ثم ربطنا وضع السلاح ، من أيدي عناصر جيش التحرير ، بتلبية هذه المطالب إذ كان ذلك الإجراء يشكل هاجسا كبيرا يقض مضجع الإدارة الفرنسية . فما كان من سلطات الحماية إلا أن رضخت ، في النهاية ، لواقع الأمر ، ووافقت على الشروط الثلاثة المطروحة : الرجوع الفوري لمحمد الخامس ؛ وإلغاء نظام الحماية ، وإعلان استقلال المغرب . والحصيلة ، اندلعت مظاهرات في جميع أنحاء المغرب نادت بإعادة الملك إلى عرشه ، وهو ما دفع سلطات الحماية إلى نقله من مدغشقر إلى قصر بالقرب من باريس يسمى ” سان مان اون لاي وعند وصوله هذا القصر بدأت الوقود تزوره هناك : أقام في القصر مدة قصيرة ، ثم دخل بعدها إلى المغرب ، فالغي نظام الحماية الفرنسية المطبق على المملكة ، ولم يبق عالقا سوى قضية الاستقلال . تشكلت بعد ذلك حكومة لتفاوض من أجل الحصول على هذا المطلب الغالي ، وكانت ائتلافية مكونة من حزب الاستقلال ، وحزب الشورى والاستقلال ، ومن شخصيات تمثل مناطق المغرب : مثل محمد المختار السوسي ، الذي كان يمثل جهة سوس واليوسي الذي مثل جهة الأطلس المتوسط وزيان ؛ إلى غير ذلك من الشخصيات البارزة . ترأس هذه الحكومة مبارك البكاي باعتبار تضامنه مع محمد الخامس ، وتم الاتصال ببعض الشخصيات ، مثل ” كاترو ” ، الذي ساعد على تسريع المفاوضات ، نظرا لصداقته مع البكاي . تكونت الحكومة فتم الاعتراف باستقلال المغرب . لما حل محمد الخامس بالرباط جاءت الوفود ، مهنئه ، من كل أنحاء المغرب ؛ ولما دخل إلى القصر اعتلى شرفته ، وخاطب الجماهير الغفيرة ، مبشرا المغاربة ببزوغ فجر الاستقلال . كنت شخصيا متشائما مما يمكن أن يحدث ، وقد أبدت لي الأيام صدق تشاؤمي ، برغم الفرحة العارمة ، التي كانت بادية على وجوه الجماهير الغفيرة ، إثر إلغاء نظام الحماية ، والاعتراف برجوع محمد الخامس ، واستقلال المغرب . اغتيال عباس المسعدي كان محمد الناصري الطويل المشهور ، حركيا ، بعباس المسعدي عضوا في المقاومة المسلحة ، ثم فر إلى الشمال من مضايقات سلطات الحماية الفرنسية ؛ ولما فكرت عناصر التنظيم في إنشاء جيش التحرير بعثوا ببعض الأشخاص إلى مصر ليتلقوا تدريبهم هناك ، ومن بينهم عباس المسعدي الذي قضى في مصر بعض الوقت بين سنتي 1955 و 1956 ، ثم عاد إلى المغرب ليتحمل مسؤولية داخل جيش التحرير ؛ عاد متأثرا بأفكار ما سماه المصريون ” الضباط الأحرار ” بزعامة جمال عبد الناصر ، والتي انبنت على فكرة تنحية التنظيمات الحزبية ، وتنحية الأنظمة الملكية .
بدأ يدعو إلى هذه الأفكار ويشيعها ، وخاصة فكرة تنحية الأحزاب السياسية ، فيما كان يدعو خلسة ، وبنوع من الحذر الشديد ، إلى فكرة تنحية النظام الملكي ، ربما لكونه أدرك مكانة الملك محمد الخامس في قلوب المغاربة . تغاضى النظام الملكي ، في أول الأمر ، عن دعوة المسعدي إلى تنحية الأحزاب لما كان بينه وبين بعضها من توتر وخلاف ، غير أن هذه الدعوة خلقت نقاشا ساخنا في الأوساط السياسية داخل الحكومة المغربية . بدا لي ذلك جليا حين شاركت في اجتماع ، في دار المحجوبي أحرضان ، مع قيادة المقاومة وجيش التحرير ؛ إذ لما أثيرت قضية عباس المسعدي بدأت أفواه الحضور تحكي ، وبغصة في حلوقها ، عن معاداته للأحزاب السياسية وللنظام الملكي في المغرب . وبمجرد ما انتهى الاجتماع سألت الدكتور الخطيب رئيس جيش التحرير عن رأيه في الشخص ، وفي ما نسب إليه ، فأجابني متوترا : – أقول لك الحق وبصراحة : هذاك ولد الحرام ، ولا توجد أي إمكانية للتفاوض معه ، ولا ينتظر منه أن يتراجع عن معاداته للنظام الملكي ، لأن الذي يهمه ليست هي الأحزاب وإنما هو النظام ، ولذلك لا يوجد أي حل معه سوى تصفيته .
فوجئت بهذا النوع من الحسم ، لأنني كنت دائما أدعو إلى ضرورة عدم تورط جهازي المقاومة وجيش التحريري مزايدات تحولهما إلى قتلة أو إلى حزب سياسي . لكن ما الذي وقع ؟. هناك ثلاث وقائع لافتتة لم تخل من غموض تاه بالكتابات الوطنية في مسارب من الافتراضات لا بد أن نسجلها ، دون أن نغفل عن إدراج رأينا فيها : الواقعة الأولى : مضمونها أن اجتماعا لأعضاء المقاومة وجيش التحرير قد عقد في دار عبد الكبير الفاسي في مدريد ، لدراسة الوضعية المتعلقة بالمفاوضات الخاصة بحصول المغرب على استقلاله ، ودراسة أوضاع بلدان شمال إفريقيا . وكان أن حضر المهدي بنبركة هذا الاجتماع ، غير أن عباس المسعدي رفض حضوره بدعوى أنه رجل سياسي حزبي ، وليس عضو في المقاومة وجيش التحرير . احتدم السجال بين الرجلين إلى أن انتهى ، بتدخل علال الفاسي لإصلاح ذات البين . انسحب بن بركة من الاجتماع ، وهو ما جعل صاحب الدار عبد الكبير الفاسي ينسحب بدوره ، تضامنا معه . الواقعة الثانية : تمثلت في زيارة بنبركة لمنطقة الشمال لاستطلاع آراء أعضاء جيش التحرير هناك بشأن المفوضات الخاصة بالاستقلال ، وهو ما دفع عباس ، إلى أن يصطدم معه لكون بنبركة يمثل في زيارته حزب الاستقلال فيما يبدي المسعدي عداء للحزبية ورثه من أفكار تشربها من ” الضباط الأحرار ” بمصر ، ولذلك رأى أن لا حق لبنبركة في المجيء إلى الشمال فطرده شر طردة . ولعل هذا الخلاف هو ما استند عليه المدعون المغرضون ليلبسوا تهمة الاغتيال لبنبركة ، محاولين جعل ردة فعله وبريرا لذلك . أما الواقعة الثالثة : فتمثلت في إبلاغي بأن كريم حجاج ، الذي كان سؤولا عن قيادة جيش التحرير في الريف ، قد تكفل هو ومجموعة من تعناصر المرافقة له باستدعاء عباس المسعدي ليحضر اجتماع قادة جيش الحرير بعد أن تذاكروا حول رأي عباس في مصير هذا الجيش ، إذ تداولته الأفواه بين مناصرين لانضمامه إلى الجيش الملكي وداعين إلى عدم انتمائه ، يدين فكرة استئنافه تحرير ما بقي من أقاليم تحت نير الاستعمار . إلا أای عباس زاد عن كل هذه الآراء بأن اقترح أن ينضم جيش التحرير إلى القوات الجزائرية ليعينها على إجلاء الاستعمار الفرنسي .
ما يهم هو ان كريم حجاج كان مرفوقا بعناصر أخرى حين اجتمع بعباس كي يبلغوه بدعوته من لدن قيادة جيش التحرير لحضور الاجتماع المزمع عقده لأجل دراسة كل تلك الآراء ، فإذا برصاصة طائشة تنطلق من مسدس لم يذكر اسم حامله أصابت المسعدي ، فأردته قتيلا ، لم يبد أن الاغتيال كان مدبرا ، وإنما نتج عن الشطط في تنفيذ الأوامر ، فقد تصرف كريم حجاج ، الذي كان مكلفا باستدعاء عباس ، بطريقة أحدثت تدافعا داخل السيارة ، فانطلق عيار ناري ، خطأ . والشيء المعروف عند الجميع هو تورط كريم حجاج ، واثنين من مساعديه وهما أحمد منير بن بوشعيب ، ومبارك المرزوقي ، الذي دل المحققين على مكان دفن جثة عباس بالقرب من عين عيشة في ضاحية فاس . هكذا تمت التصفية في ظروف غامضة . والواقع أن ولي العهد كان قد أعطى أمره باعتقال كريم حجاج ، تبعا لما روج في شأن مسؤوليته عن التصفية . أخضع للبحث ، ثم سجن مدة ، وبعدها أطلق سراحه ، وأشيع بأنه لم يكن مسؤولا عن اغتيال عباس ، وأن الذي وقع لا يعدو أن يكون رصاصة طائشة انطلقت من مسدس لم يعرف حامله أصابت الرجل فقتلته ، كما أطلق سراح المتهمين الآخرين ، بل وعينوا في وظائف مختلفة ، ومنهم من حصل على امتيازي خطوط النقل ، وهو ما زاد الموقف غموضا حول المسؤولين الحقيقيين عن الاغتيال في غياب وثيقة رسمية لكن هذا لم يمنع بعض المسؤولين السياسيين من الاستمراري توجيه التهمة إلى كريم حجاج ، ولعل القصد من اتهامهم هو محاولتهم توريط حزب الاستقلال ، لأن كريم إما كان عضوا في الحزب المذكور أو متعاطفا معه . ولقد دفعني تخبط بعض الكتابات الوطنية في غموض كبير أثناء تفسيرها لهذه الأحداث إلى استخلاص خلاصات : أولا ؛ إن التبرير الخاص بانطلاق رصاصة طائشة من مسدس مدسوس لم يكن مقبولا لدي بتاتا ؛ لأنني أعرف أننا لم نألف من مسؤولين بارزين عن جيش التحرير ، هما المسعدي وحجاج ، أن يجتمعا وسط فوضى يمكن أن تسمح بانطلاق عيار طائش يتسبب في القتل ، ولذا لم تتطل على هذه الحيلة . وثانيا : تمثل 2 وعيي بان تحوير هذا الحدث أريد منه إحداث ارتباك لدى كل من يهمه الأمر ؛ وكذلك كان . كثرت الأقاويل والافتراضات حول تصفية عباس المسعدي ، غير أن الذي انفرد بمعرفة حقيقة ما جرى هما اثنان : ولي العهد آنذاك مولاي الحسن ، الذي أمر باعتقال حجاج ، واطلع على تقارير التحري معه ، وكريم حجاج الذي صرح بما صرح به وبقي غامضا ، خصوصا وأن المسألة كانت على أهبة أن ثقفل ، وأن يتم اتهامه بتنفيذ ذلك الاغتيال ، فإذا بالرأي العام يفاجأ بإطلاق سراحه ! ولعل ما دفع بعض المسؤولين السياسيين إلى ترويج مسؤولية كريم حجاج ومن بعده المهدي بنبركة عن اغتيال المسعدي هو محاولتهم الجادة توريط حزب الاستقلال في مثل هذه القضايا الدامية ، لما كان بينه وبين النظام من توتر وخلاف حتى يكسروا شوكته ، وينالوا من شعبيته الواسعة . ثم إن المصادفة بين هذا الحدث وما يحيط به من غموض وبين حدث اغتيال المهدي بنبركة وما أحيط به من غموض ثبين إلى أي حد لا يمكن الحسم في اتهام أي كان ما دامت الحقيقة عالقة بين المخابرات المغربية والإسرائيلية والغربية ، وهو ما يفضح تهافت وتسرع تصريحات واتهامات بعض المسؤولين السياسيين ، الذين كانوا وما زالوا يلفقون التهم ، دون تحر ، ويلبسون جلدة القاضي والجلاد بغير علم ولا دليل بين . استغلت هذه الحادثة أبشع استغلال ليتأسس على أنقاضها حزب الحركة الشعبية ، واتهم فيها حزب الاستقلال اتهاما ملفقا وكاذبا ، نكاية الأوامر بتنفيذ التصفية . به ، وروج بأنه كان طرفا في مؤامرة الاغتيال ، وأن قيادته هي من أعطى دفن جثمان المسعدي بالقرب من عين عيشة في ضاحية فاس ؛ ومن فرط توجس كل من الخطيب وعبد الله الصنهاجي والمحجوبي أحرضان وخشيتهم ، طالبوا بانتشال جثمانه ونقله إلى مدفن آخر ، وكان غرضهم أن يخلقوا ضجة على شكل مظاهرات ليعلنوا فيها عن بروز فجر سياسي جديد – حسب زعمهم – مع تأسيسهم للحركة الشعبية ، لم يكتفوا بهذا المكر الخبيث وإنما عملوا على قلب المفاهيم ، وحركوا أحابيل متشابكة خولت لهم أن يدعوا بأن عباس المسعدي قد صفي لكونه يدافع عن الأحزاب وعن الملكية ، وأنه متضامن معها ، وأنه كان يتأهب لأن ينخرط في الجيش الملكي . وهم في كل ذلك يسعون إلى تلبيس تهمة تصفيته لحزب الاستقلال . ويبدو أن تضليلهم قد طال الملك محمدا الخامس إذ وصف عباس المسعدي ، في تصريح له ، بكونه ملكيا وفيا . هكذا قلبت الآية في تصفية عباس لصالح النظام الملكي ، ولعل ما حمل كل من صرحوا بقول عن هذه القضية على التلفيق فيها هو عدم امتلاكهم لأسرار أحابيلها . والخلاصة أن النظام الملكي قد ارتكب أخطاءً لوضعه يدوي أيد غير أمينة ، إذ لم يهتد إلى كيفية تأسيس أحزاب وطنية موالية له وبشكل هادئ ، كما هو الحال مع حزبي الأحرار والاتحاد الدستوري ، إلا بعد أن أعيته الحيل لمحاولات كسر شوكة الأحزاب التي كانت تقلقه بشعبيتها الواسعة .