ليرسلوا إليه تعزيزات تعينه على ضبط تمرد السجناء . حضر أفراد الأمن حاملين معهم قنابل مسيلة للدموع . رموا السجناء بها ، فاختنق كثير منهم ، لانهم كانوا يجهلون كيفية التعامل مع هذا النوع من القنابل : فيما بقيت مصمما على رفض الدخول إلى غرفة العقاب : ” الكاشو ” ، وكان أن اضطر المدير إلى أن يدخل معي في مفاوضات ثالثة ؛ فعزمت على استغلال تضامن السجناء معي ، وحاولت أن أضغط عليه ، قائلا : – لن تعود الأمور كما كانت ، ولن يعود الوضع إلى الهدوء ، الذي كان عليه ، إلا إذا سلمتني مسؤولية ضبط السجناء . توصلنا إلى تقسيم المسؤولية : أنا أتكلف بالسجناء ، والمدير يتكلف بحراسة السجن ؛ على أن تكليفي بذلك شمل كل ما يتعلق بالأكل ، والنظافة ، وكل الأعمال التي تمارس داخل السجن . وبمجرد ما تم الاتفاق بيننا تسلمت مسؤولية الضبط ، فقسمت السجناء إلى لجن : منهم من تكفل بالنظافة ، مثل تنظيف المطبخ ، والأواني ، والأرض ، والجدران ، ومكان تخزين المواد الغذائية : الدقيق ، والقطاني . أخذت المفاتيح ، وبحثت عمن له خبرة في المطبخ ، والعجين ، وأمرت بإخراج المواد الفاسدة ؛ انتقينا الدقيق من الدود ، وكذلك فعلنا بالمواد الأخرى الخاصة بالقطاني ، فصرنا نتناول طبخا لذيذا ، ونقيا نسبيا . استمر الحال على هذا النحوحتى حان موعد الحكم . عرضت على المحكمة مرات عديدة ، وكنت أقدم إليها مع المقاومين الآخرين الباقين على قيد الحياة بعد إعدام حمان ، وعلال ، وامبارك . أي مع جماعة مولاي امبارك ، ومحمد بن العربي المودن ، وحسن ، ولحسين الروداني ، والحسين البزيوي ، ومولاي الشافعي . اتفقنا على أن نوحد موقفنا الإقطاعي السائد ، وبتسلط الأمن ، ومغالاته في الشطط . المتمثل ، في التنديد بالاستعمار ، وبسلوك الباشا الكلاوي ، وبالنظام كانت هذه هي الخطة ، التي تم التوافق حولها . ولما استدعاني القاضي استفسرني عن مجموعة من الحوادث وقعت في مراكش : مونيي ، تيفا ، دهوثفيل ، الكلاوي ، بنعرفة ،وعملية نجا من بهذا النوع من النضال ضد الاستعمار ، والقمع ، والإقطاع . وهو تصريح لم تنفيذها المقيم العام الجنرال غيوم … فأجبته بأن الواقع يحتم علينا القيام أسئلته أمر بإنزالي الى قبو المحكمة العسكرية ، وهو المقر الذي توجد فيه ، يعجب القاضي . ولما اعتبر أنني أزيغ عن الجواب ، وأراوغ محاولا تفادي حاليا ، محكمة الاستئناف , صاحبني إلى القبو ضابط فرنسي فظ ، وبدأ يهزأ بي ، ويقلد الطريقة التي كنت أجيب بها رئيس المحكمة : وكان يردد كلمة ” الاستكلال ” أي الاستقلال ، ويقترب مني ، فاستفزني فوكزته بيدي المكبلتين إلى أن سقط أرضا ، وبدأ يصرخ ، حضر الحراس ، وأرجعوني إلى رئيس المحكمة ، شكا إليه الضابط ما فعلت به ، فامر بحبسي سنتين نافذتين ، وكانت الجنحة هي اعتدائي على ضابط فرنسي . النطق بالحكم استبشر خيرا ، وقال : كان والدي يحضر المحكمة صحبة الحبيب بنموح . وعندما سمع – الحمد لله ! سنتان فقط ؛ الحمد لله . ووافقه محمد الحبيب محيي ، المعروف بين موح ليهدئ من روعه فحسب ، وإن كان هذا الأخير يعلم أن هذا الحكم لم يكن هو الحكم القطعي ، الذي ينتظرني ؛ فالمحاكمة كانت قد بدأت ولم تنته بعد ، بل كانت ستستمر وتطول .
كنا قد وحدنا مواقفنا لمواجهة المحاكمة بحجة الدفاع عن وطننا واتفقنا على الصراخ داخل القاعة كلما حاول القاضي المساس بحق من حقوقنا ، وكنا نردد شعارات ، وتحدث فوضى ، وصراخا يرفع شعارات من قبيل : – عاش المغرب ، يسقط الاستعمار . كنت أبغض حسن ، وهو أحد عناصر جماعتنا ، لأنه بدل أن يتضامن معنا دلهم علينا ، فكان ردي عنيفا تجاهه ، لأنني اعتقدت أن تصريحاته كانت بدافع التملق إلى المحكمة ، وأثناء توجهنا إلى السجن لطمته بشدة لكنّني سرعان ما قدمت على ذلك التصرف ، اعتقدت أن موقفه كان تملق إلى المحكمة لتبرئته ، أو لتمتيعه بظروف التخفيف ، وأخيرا وضعونا ، في الحي الأوروبي ، لأننا أصبحنا محكومين بالإعدام ، ومن يصدر في حقه ذاك الحكم يحلق شعره ، وتكبل رجلاه بالسلاسل ، رفضت أن يحلق شعري فاستعطفني المدير ، لأنه سيعاقب إذا ما تركني وحدي من دون حلق ، كما رفضت أن توضع القيود في رجلي ، ورفضت اللباس المخصص للسجناء المغاربة ، وطالبت باللباس المخصص للسجناء الأوربيين : وهو عبارة عن سروال ، وقميص عصريين من النوع الأوربي ، مخالفين للباس المغاربة الذي هو عبارة عن سروال قصير ، وشيء من قميص بثوب رديء ؛ ولذلك رفضته أقدمت . اضطر المدير إلى اللجوء إلى الحوار ، بل استعطفني ، مبديا تفهمه لما عليه ، وخوفه من أن يؤثر ذلك ، سلباً ، على وظيفته ، أخبرني أنه شيوعي ، وأدلى لي ببطاقة انخراطه ، في ذاك الحزب ، وأراني شعارا خاصا به نقشه على خاتمه المثبت في إصبعه ، واقترح على أنه في حالة قدوم لجنة فضلني عن الآخرين . تفتيش سيخبرني بوضع السلاسل في رجلي ، فقبلت لئلا يفطنوا إلى أنه مكلف عانيت كثيرا من الجرح العميق ، الذي أصاب يدي ، أثناء قيامي أقدر على بسط أصابع يدي . ألفت أن يزورني مسجون يعملية الفرار من السجن ، وأحسست أن ألمه قد بلغ إلى العظم ، ولم أعد إسباني . بمصحة السجن ، ليضمد جراحي ، فتوطدت علاقتي به ، وأخبرني مستعد للمشاركة في عملية قرار إذا ما أقبلت المجموعة على تنظيمها ، ووضع نفسه رهن إشارتي ، كنت لوحدي زنزانة تحت حراسة مشددة محروما من الخروج مع السجناء ففكرت ، من خلال تنسيق مع هذا الاسباني في ان اقترح على مجموعة من العناصر وتنظيم عملية هروب في النهار، في النهار اثناء تناولهم طعام الغذاء ، وهو الوقت الذي لا يبقى فيه سوى حارس واحد داخل السجن ، وتخر في الخارج من السورين،فكرت في اعتقاله اولا ، ثم في اعتقال الحارس الخارجي مرتديين لباس الحارسين اللذين سنقوم باعتقالهما . تم اعتقال الحارس الخارجي ، وفي المغادرة على متن سيارة السجن، مرتدين للاس ااحاريبن اللذين ينقوم باعتقالهما .
كان من المقرر أن أفر من السجن رفقة الإسباني ، وبقية العناصر ، التي كان أغلبها من تارودانت ، ومن ضمنهم مولاي حفيظ ، ومولاي عمر ، ومراكشيان اثنان : هما محمد العربي ، وإينوس عبد الرحيم ، وهذا الأخير هو من قتل القبطان الغول ، انتقاما لرفاقه في النضال مولاي الشافعي ، محمد بركاتو ، ولحسن الروداني ، الذين صفوا من لدن كتيبة وسي كان يترأسها القبطان الغول … تعرفت عبد الرحيم إينوس في سجن بولهارز ، كنت لما نقلت إلى هذا السجن قد امتعضت من إقبال السجناء المناضلين على التدخين بإسراف : تدخين السجائر ، والقنب الهندي ( الكيف ) ، تحريت عن الأمر ، فوجدت أن سجناء الحق العام كانوا يتاجرون ي هتين المادتين ، ولا يتوانون في استهداف السجناء المناضلين ، فعقدت وقفات في الساحة بقصد أن أوعي رفاقي بضرورة الإمساك عن التدخين ، تضامنا مع رفاقهم في النضال المضربين عن هذه الآفة ، وكان عبد الرحيم هذا ملازما لي يتسقط كلامي مع المناضلين إلى أن صرح لي بأنه مدمن على تدخين القنب الهندي ، وأنه ، برغم ما يكنه لي من احترام ، لا يقدر على الإمساك عن تدخينه مهما بلغت الدوافع ، وطلب مني أن أعفيه من مقاطعة ( الكيف ) ، فقلت له : – أشكرك على صراحتك ، لكن تأمل معي المسألة جيدا . إذا كانت لديك الجرأة على الإعلان بأنك تدخن القنب الهندي ، فلماذا لا تستعمل الجرأة ذاتها لكي تتخلص منه .
وبدا أن ما قلته له قد وقع وقعا طيبا في قلبه ، فضحك ضحكة صاخبة ، ووعدني بأن يقلع عن التدخين انطلاقا من تلك اللحظة اتفقت والإسباني مع أفراد المجموعة أن يحضروا وقت الغذاء ليعتقلوا الحارس الداخلي : وحين حان الوقت كمم الإسباني فم الحارس ، لكن هذا الأخير استل سكينا ، وبدأ يلوح به صوب قلبه ، ولما هم بطعنه ، تصدى الإسباني بيده إلى السكين ، ونزع اليد الأخرى عن فم الحارس ، فبدأ يصرخ ، فيما لم يستطع أي من أعضاء المجموعة التدخل . حضرت التعزيزات ، وفشلت المحاولة . كانت هي الثانية للفرار من سجن بولمهارت بعد ذلك أعادوني إلى سجن القنيطرة ، لأن وجودي في مراكش أصبح يشكل خطرا على إدارة السجن ، التي بادرت إلى رفع تقرير إلى إدارة السجون سجلت فيه تأثيري على باقي السجناء .