أولياء الله الصالحين في شعر الملحون (ديوان عبد القادر بوخريص المخطوط) : سيدي محمد الحراق .
سعيد عفلفل
سيدي محمد الحراق ، ليس وليا بالمعنى المتعارف عليه، هو شيخ جليل، علامة و إمام فاضل، شاعر و أديب مفلق، وقبل هذا وذاك هو مربي السالكين و دليل المريدين إلى سكة الله الواضحة. جمع بين العلوم الدينية و التصوف و الأدب، فكان بحرا لا ساحل له في العلم و طودا شامخا من أطواد المعرفة.
مدحه الشاعر الفقيه عبد القادر بوخريص في قصيدة جميلة يقول في حربتها:
” ضيف الله يا عنايتي سيدي محمد ** غير عليا لله يالحراق دخيل الغاني.”
في هذه القصيدة يبرز بوخريص المكانة العلمية و الدينية المرموقة للشيخ الحراق و شيمه و أخلاقه الحميدة و الحضوة الأثيرة التي يلقاها لدى الناس بمختلف مشاربهم. يقول بوخريص في القسم الرابع :
” بحرك عذبي غزير منُّه ناوي نورد ** لا تبخلني عوريط النبي قلبي ليك دْعاني
من حبي فيك عن حرمك ما نتحيد ** ندريك نبيل فضيل بر زاهد تاقي رباني
ذو حلم و علم مخنتر و كريم و جيد ** هيّن ليّن راقي عقيل يعجز فاثناك لساني
تدريك الناس كلها ياقوت منضّد ** قدرك عالي بين لفضال نسبك ظاهر حسني
ضوّك لا زال فالضيا و الداج يوقّد ** حَبّكْ نعم المولى و شرفّك عن٥حرّ و سوداني
طاعت ليك لاْشراف و اعْوام لا نجحد ** و ظهر فضلك عنهم من حسانك يكمل سلواني”
الشيخ الصوفي الحراق هو محمد بن محمد بن عبد الواحد بن يحيى العلمي الشاذلي الدرقاوي. يرجع نسبه إلى مرسى بن مشيش أخ الشيخ مولاي عبد السلام بن مشيش الولي الصالح الشهير بقبيلة بني عروس في إقليم العرائش. انتقل أهله إلى مدينة شفشاون و فيها رأى النور عام 1186 هجرية / 1772 ميلادية و فيها حفظ القرآن و أخذ مبادئ العلوم الدينية. امتهن بعض الحرف. في سن العشرين أو يزيد قليلا، شد الرحال إلى مدينة فاس للإلتحاق بالقرويين. بعد رحلة العلم هذه قفل عائدا إلى تطوان حيث استقر بها و أصبح إماما و خطيبا يعطي الدروس و الفتوى. تم عزله عن وظيفته بمكيدة دبرها بعض حساده. على إثر ذلك مر الشيخ بفترة عصيبة كان لها الأثر السلبي على نفسه و جسده. لما تعافى توجه إلى منطقة بني زروال حيث اتصل بالشيخ العربي الدرقاوي فلازمه و صاحبه قلبا و قالبا، ظاهرا و باطنا. استلطف الشيخ الدرقاوي مريده الحراق و وجد فيه شخصا نقي السريرة، مهذب النفس، واسع الصدر، قابلا لتلقي الأسرار الصوفية. ألقى الشيخ الدرقاوي بأسراره و ودائعه الصوفية إلى الشيخ الحراق فامتلأ و ارتوى و حصل على مبتغاه و تزود بأوراد و أسرار الشيخ الدرقاوي.
استقر الشيخ الحراق بمدينة تطوان و اجتمع إليه تلامذته و مريديه و أخذ يعلمهم و يربيهم و يرشدهم إلى الطريقة الصوفية الحقيقية، طريقة تُعرض عن مغريات الحياة الدنيا و مظاهرها الفارغة، طريقة تملأ قلب المريد بحب الله، طريقة تطهر القلوب و تصفيها من العيوب و الشوائب،. طريقة تجعل المريد السالك عبدا مخلصا لله محبا لرسوله.
هكذا أصبحت الطريقة الدرقاوية الحراقية تنتشر في كل بقاع المغرب.
خلف لنا العلامة الشيخ سيدي محمد الحراق عدة مؤلفات و مصنفات في التصوف و الشعر. لعل أبرز مضامين شعر محمد الحراق هو ” الحب الإلهي” الذي استقاه من تجربته الصوفية الوجدانية. و نسوق هنا مثالا عن الحب الإلهي في شعر الحراق :
” إني على مذهبٍ في الحب لو عَدَلَتْ * فيه البريّةُ لم تكن لِتَلْويني.”
و يقول أيضا :
” لازم هواك ولا تجزع من التيه * فالوصل و الهجر كل من معانيه.”
و في الشوق إلى الله، يقول الحراق :
” كأن بالعين ما بالقلب من ضَرَمٍ * شوقاً و بالقلب ما بالعين من ثَجَجِ.”
* “السكر الصوفي ” سمة أخرى نجدها حاضرة في شعر محمد الحراق. و السكر الصوفي كما يصفه الكاتب عدنان حسين العوادي في كتابه” الشعر الصوفي حتى أفول مدرسة بغداد و ظهور الغزالي” هو ” تلك النشوة العارمة التي تفيض بها نفس الصوفي، وقد امتلأت بحب الله حتى غدت قريبة منه كل القرب، وقد عبر الصوفية بألفاظ متقابلة عن حالات هذه النشوة و درجاتها، كالغيبة و الحضور و الصحو و السكر و الذوق و الشرب و غيرها. ” إذن الخمرة في السكر الصوفي ليست حمرة مادية حسية بل هي حالة نفسية و جدانية، هي نشوة عارمة تفيض بها نفس الصوفي حين تمتلئ بحب الله.
يقول الحراق في هذا الصدد :
” قبل خمر الدنان ** و الكروم و العصر
أشرقت في الجنان ** شمس هذا الخمر
كم لهذي الشموس ** في القلوب من أسرار
لونها في الكؤوس ** يحكي ضوء النهار
لو رأتها المجوس ** ما اصطلت قط نار.”
و الأمثلة كهذه كثيرة في شعر هذا القطب الصوفي الزاخر.
و من ازجال الحراق التي يُتغنى بها، هذا النموذج :
” كلي فوجودك * غيبو عني يا سيدي رضاك
و غثاني جودك * و الاحسان اللي ظاهر فيك
لاني مقصودك * بالذي يبقى فالحضرا معاك
زاهي بوصولك * لا غنى دايم والع بيك
يشرق بيعودك * في سما عقل بالنظرا بهاك
من بين عبيدك * فالمقام اللي كايرضيك
اخضع لسيدك * بالصفا و تحدث باللي عطاك. ”
و من أبزر و أشهر قصائد الحراق الصوفية نجد القصيدة التائية” أتطلب ليلى….. “. هذه قصيدة صوفية يتجلى فيها كل السمو و التوق إلى التخلص من مغناطيس الحياة المادية و التحليق عاليا إلى إلى حيث المطلق.
يقول الحراق في مطلع قصيدته التائية :
” أتطلب ليلى و هي فيك تجلت * و تحسبها غيراً و غيرُك ليستِ
فذابله في ملة الحب طاهر * فكن فطنا فالغير عين القطيعة
ألم ترها ألقت علبك جماها * ولو لم تقم بالذات منك اضمحلتِ
تقول لها أدنُ وهي كُلك ثم إن * حَبَتْك بوصلٍ أوهمتك تدلت
عزيزُ لقاها لا ينال وصالها * سوى من يرى معنىً بغير هَوِيّةِ. ”
إن القارئ لهذه القصيدة قد يبدو له من أول وهلة أنها قصيدة في الغزل الإنساني العذري إلا أن المتمعن المتصفح لمعانيها يستشف من البيت الأول أن لها جاذبية عكسية خاصة جاذبية تحلق بالمرء إلى الأعلى عوض جره إلى الأسفل كفعل الجاذبية الطبيعية. منذ الوهلة الأولى ينضح المعجم و يفرز لنا مفردات تحيلنا إلى تجربة المتصوفة، مفردات كالتجلي و الغير و الحب و الوصال و المعنى…..
كما أن حضور إسم مؤنث ( ليلى)، إسم لطالما تغنى به الشعراء، توحي بالجسد الإنساني المادي لكن ليلى هنا لبست ثوبا رمزيا صوفيا يحيل إلى المحبوب المطلق. ليلى هنا تجاوزت الصورة المادية للمحبوبة و أضحت جسرا روحيا عبر من خلاله العاشق الصوفي إلى عالم الحب الإلهي، إلى معرفة الخالق.
توفي الشيخ الجليل سيدي محمد الحراق يوم الحادي و العشرين من شعبان سنة 1261 هجرية /1845 ميلادية و دفن بتطوان في زاويته الحراقية و ضريحه مشهور يؤمه العديد من المريدين و الزوار.