علي فاضلي
كانت مهنة المحاماة تاريخيا عنوانا للعلم والسياسة والنضال والكفاح، فقد كان المحامي فيلسوفا ومفكرا وفقيها وسياسيا ومكافحا، بحيث ارتبطت المحاماة بعلاقة غير قابلة للانفصال مع العلم والفكر والسياسة والنضال، فالمحامي كان فقيها قانونيا “ينتج” ويؤلف، وهكذا كان أغلب فقهاء النظريات القانونية التي ما يزال طلبة كليات الحقوق يدرسونها محامون وقضاة بالرغم من مرور قرون وعقود على “انتاجها”.
في المغرب ارتبطت المحاماة تاريخيا منذ عهد الحماية بالسياسة والعلم والنضال، وهو أمر تعزز مع الاستقلال، وهكذا فقد كان جزء من زعماء الحركة الوطنية والأحزاب المغربية من المحامين (عبد الرحيم بوعبيد، اليوسفي، بوستة، اكديرة، المعطي بوعبيد، بنعمرو، بنجلون …)، وحتى جزء من قادة الأحزاب المحسوبة على الدولة كانوا محامين (المعطي بوعبيد، اكديرة…).
لقد كانت مهنة المحاماة مهنة الطبقة المتوسطة بامتياز، ليس في المغرب وحده، بل في كل دول العالم، وكانت قلة قليلة جدا من البورجوازية تختار مهنة المحاماة، لأنها كانت مهنة المتاعب ولم تكن مهنة للارتقاء الطبقي والغناء الفاحش، ولهذا فقد هيمنت أحزاب المعارضة تاريخيا خصوصا اليسار والإسلاميين في بعض الدول المشرقية على نقابات المحامين، ومن هنا كان المحامي في طليعة المناضلين عن قضايا الشعوب وعن قضايا الأمة، وعلى رأسها القضية الفلسطينة، وكان للمحامين الدور الأبرز في تأسيس والدفاع عن حقوق الإنسان في مختلف دول العالم.
ومن يتذكر مسيرات التضامن مع قضايا الأمة وعلى رأسها القضية الفلسطينية سيتذكر كيف كان مئات المحامين يقودون بزيهم المهني الأسود مسيرات التضامن، وكيف كان للمحامين دور في الترافع حول هذه القضايا، وحتى اليوم فقد بقي الرعيل الأول من المحامين من أمثال النقيب عبد الرحمان بن عمرو مواظبين على دعم قضايا الشعوب وقضايا الأمة، في حين تراجع بشكل كبير دور المحامين في الأجيال الجديدة في الانخراط في قضايا الشعوب وقضايا الأمة، وفي الانخراط في السياسة، وفي المجتمع المدني عموما.
ومن هنا كانت قلة معينة تختار مهنة المحاماة، فبالرغم من البطالة والعطالة فقد كان معطلون كثر يرفضون اجتياز امتحان المحاماة، والمئات كانوا يفضلون الوظائف العامة على المحاماة، بل إن المئات ممن حصلوا على الأهلية لمزاولة المهنة اختاروا الوظيفة العمومية على الانخراط في المهنة.
لكن الوضع بدأ يتغير بشكل جذري منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وتسيد النموذج الأمريكي وهيمنته على غالبية دول العالم، ومعه هيمنة النمط الرأسمالي في الإنتاج الذي بدأ يقتحم كل المجالات ومنها المهن الحرة من طب ومحاماة وغيرها، والتي تحولت تحت تأثير النزعة الرأسمالية نحو مهن رأسمالية بدأت تقتحمها بشكل كبير البورجوازية.
هكذا بدأت تظهر شركات المحاماة وتقتحم المهنة نقلا عن النموذج الأمريكي الرأسمالي، وأصبح التعامل لا يتم بناء على اسم المحامي بل بناء على اسم الشركة، وأصبحت الدول والشركات العالمية تتعاقد مع الشركات العالمية للمحاماة مثل “بيكر ماكينزي” وأمثالها وهي التي تحولت لشركات متعددة الجنسيات تتجاوز معاملاتها السنوية مليارات الدولارات، وتشغل عشرات الآلاف من المحامين كأجراء (يمكن مشاهدة سلسلة SUITS الأمريكية كنموذج).
وإذا كان نموذج الشركة نموذجا أمريكيا منذ عقود بحكم طبيعة النمط الانتاج الرأسمالي إلا أن تأثيره ظل ضعيفا في مختلف دول العالم لوجود نظام مناقض في ظل الحرب الباردة، لكن النموذج الأمريكي بدأ في الهيمنة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.
والمغرب ليس استثناءا، بحيث بدأ نموذج شركة المحاماة يقتحم المهنة تدريجيا، وهكذا بدأت البورجوازية التي كانت طبقة غريبة عن مهنة المحاماة تقتحم المهنة، وهي بورجوازية ولدت في سياق تطور المهنة، بحيث نمت فئة من المحامين وتحولت من طبقة متوسطة إلى بورجوازية من داخل المهنة، ولأن البورجوازية لصيقة الصلة بالشركة، فقد بدأت مرحلة برجزة المهنة منذ مدة، وهكذا بدأت المحاماة نفسها تعبر عن انقسام طبقي آخذ في التصاعد، انقسام يجسده فئة بورجوازية قليلة، وطبقة متوسطة ما زالت هي المهين في السياق المغربي، لكن بدأ يظهر ما يمكن تسميته “بالمحامي البروليتاري” وهو المحامي الأجير لدى شركات المحاماة، بحيث لم يعد ممكنا الاشتغال في السياق الأمريكي والغربي من خارج شركات المحاماة.
إن نموذج “المحامي البروليتاري” وإن كان ما يزال يشكل نسبة ضعيفة في السياق المغربي إلا انه آخذ في التصاعد بحكم الواقع، بسبب تصاعد نزعة البرجزة داخل المهنة، والنزوع لضرورة الواقع نحو نموذج شركة المحاماة، ومن هنا قد نفهم سرا من أسرار الصراع الذي تصاعد بخصوص الإجراءات الضريبية المخصصة لمهنة المحاماة، فالهدف هو الدفع نحو رأسملة المهنة بالتشجيع على خلق شركات للمهنة، وهي الشركات التي باتت تستحوذ على القضايا الكبرى.
بحكم الواقع فالقطاع الخاص ملزم بالتعامل مع شركات المحاماة لأنه مطالب بتبرير المصاريف، والمؤسسات العمومية خصوصا الكبيرة منها بدأت تنحو نحو شركات المحاماة لأن الأتعاب المخصصة للمحاماة واضحة ومقررة في ميزانياتها، وبالتالي فالمحامي مطالب بتأسيس الشركة حتى يتمكن من تبرير نفقاته وحتى يتمكن من المنافسة على الحصول على “صفقات” المؤسسات العمومية وشركات القطاع الخاص.
هكذا ستحتدم المنافسة بين شركات المحاماة كما هو الحال في قطاع التجارة والصناعة، ولأن المنافسة تحتم ضرورة وجود فائزين وخاسرين، فمع الوقت ستظهر شركات كبرى للمحاماة وستختفي الشركات الصغرى، ومعها ستكبر فئة المحامي الأجير، بل سيصبح من الصعب على المحامي المبتدأ الاشتغال خارج إطار شركة المحاماة، أو سيتخصص في قضايا الأسرة ما دامت قوانينها وفق النموذج الحالي، إما إذا تم تغييرها كما تطالب بعض الفئات وفق النموذج الغربي فستصبح حتى قضايا الأسرة تثير شهية شركات المحاماة.
إن من علامات برجزة ورسملة المحاماة هو نظام الامتحان QCM، فهو نموذج يتوافق والرسملة، ويتوافق والنموذج الأمريكي القائم على FAST/QUICK، لأنه يبحث عن المحامي الأجير، في حين أن نظام الموضوع في الامتحان هو تعبير عن نموذج المحامي المستقل القادر على التحليل والتعاطي مع المواضيع من زاوية نقدية خصوصا فيما يتعلق بالموضوع العام الذي يتطلب مستوى معينا من التحليل والتعمق، وهو أمر يختفي تماما في نظام QCM.
إن التوجه نحو تحويل الولوج لمهنة المحاماة من نظام الامتحان إلى نظام المباراة يجد تفسيره في نزعة الرأسملة المتصاعدة داخل الميدان، فالهدف هو التحكم في عدد الذين يلجون للمهنة وفق نظام السوق، بحيث يخضع الرفع أو التقليص من عدد الناجحين بحسب متطلبات السوق.