قال الدكتور عبد الصمد بلكبير في حوار صحفي أخيرا، إن أفق الحداثة، ومن تم العصر الحديث، هو أفق عالمي موضوعيا وتاريخيا، الفروق هي في المؤهل لقيادتها من جهة، وفي درجات تقبل واستقبال فضائلها وإكراهاتها من جهة ثانية.
منذ طلائع النهضة شمال وجنوب وشرق المتوسط في القرب 16م، وربما قبل ذلك بقليل بالنسبة للشمال الأوربي، انطلق التنافس والصراع بين الطبقة الوسطى في الضفتين ( الشمال والجنوب) حول من سيستبق الأحداث ويراكم المنجزات. ويبدو، حسب بروديل، أن ذلك (لن) ولم يتم إلا لمصلحة أحدهما، وعلى حساب الآخر حكما.
يحتاج تفصيل الوقائع إلى سرود، خلاصتها أن الرهان كان لمصلحة أوربا وعلى حسابنا (تحول طرق التجارة من المتوسط إلى المحيط / اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح اكتشاف أمريكا/ ثم ترجح الكفة في المتوسط لمصلحة البحرية الأوروبية، ومن تم احتلالها جميع شواطئ وموانئ المدن الساحلية العربية؟!) موازين القوة، هي من حسم التنافس لمصلحة البورجوازية الأوروبية، ومثل غروب شمس نهضتنا التي كانت محتلة، فجرا بالنسبة لأروبا. ثم لا ننس، أن الاضطرار العربي للاحتماء السياسي والعسكري بالحليف التركي المسلم، كان على حساب الإصلاح الثقافي المطلوب لأي نهوض وشرطه، اللازم، هو الإصلاح اللغوي، والحال أن سيادة اللغة التركية على الإدارة والمجتمع العربيين (عدا المغرب الأقصى نسبيا) أوقف حركة الإصلاح اللغوي التي انطلقت سلفا عن طريق (ثورة) الأجناس الأدبية العربية الجديدة (الدوبيت، الزجل، المنامات، الكان وكان، الزجل، السير، المواليا…إلخ) وعادت الأمة مضطرة إلى المحافظة والتقليد، لا نكوصا رجعيا، بل تكريسا ومحافظة على الهوية؟!.
لم تحصل (الصدمة) العربية أولا، سوى على المستوى العسكري تنظيما وأسلحة، أما المستويات الأخرى، فلم تكن الفروق بين الضفتين، بعد، بالدرجة التي أضحت عليه لاحقا.
وعلى سبيل التنسيب، فإنه يجب التمييز، مثلا، بين حالتين ومرحلتين، دخول نابليون إلى مصر ولبنان (1798) ومعركة إيسلي (1844).
لقد كان التحرك العسكري الفرنسي بقيادة القائد الحداثي العظيم (نابليون) بمثابة فتوح تحرير، لا احتلالا ولا استعمارا، وذلك في سبيل نشر قيم وبرنامج الثورة الفرنسية التي أسست للحداثة في فرنسا، وللتحديث خارجها، ضدا على قيم الإقطاع، ودوله الدينية، وعصره الوسيط (المظلم). تماما كما كان حال الفاتحين والمحررين في التاريخ (المقدوني/ العاشوريين/ الفينيقيين/ الرومان ثم الإسلام) هدفهم إلغاء الحدود بين القبائل والشعوب، تجاريا وثقافيا، وإزاحة المستفيدين منها (شيوخ القبائل والطوائف وقطاع الطرق).
أما إيسلي، فهي لحظة عسكرية فارقة حقا، ولكنها أيضا، كانت جزء وامتدادا لقرون الاصطدامات العسكرية بين جغرافيتين متجاورتين، ولم تكن لها دلالات حاسمة، بدليل انتصار مقاومة الشمال المغربي لاحقا (أنوال 1921) على الاسبان، عندما أصبحوا استعمارا؟!
وفي الحديث، كما في المعاصر، فإنه لم يكن للمغاربة، كما بالنسبة لغيرهم، مشكلة مع (الحداثة) كتقنيات وكقيم وكمعارف وعلوم، بل مع الاستعمار وجيوشه وعنفه، والذي لم يأت أصلا للتحديث، بل للاستغلال من جهة، ولعرقلة النهج الخاص لنهوض ولحداثة محلية تقودها بورجوازية وطنية غير كمبرادورية.
وحتى اليوم، فإن الصراع ما يزال هو نفسه بين الرأسماليتين الاستعمارية وتوابعها في الداخل، والوطنية في إدارة الدولة وفي المجتمع، الذي تغير هو تجديد أدوات الاستعمار من العنف المباشر، إلى الوسائل الجديدة (الناعمة): القروض/ التبادل غير المتكافئ/ اصطناع الطابور 6 الذي عوض الطابور 5/ اللغة والثقافة/ الإعلام والاتصال… إلخ).
وأوضح بلكبير أن خصوصية التجربة اليابانية، تفسرها الجغرافيا الطبيعية أساسا. لقد ساعدها بعدها الجغرافي عن أوربا، بل وسمح لها، بأن تكون لها أيضا مستعمراتها المجاورة، دون منافسة.
لا يجوز أن ننسى بحال، أن التاريخ تأسس في بحيرة الأبيض المتوسط، شرقها أولا ثم جنوبها وشمالها لاحقا ومباشرة، ولقد استمر الوضع كذلك حتى اليوم ربما، ولهذا فلا مجال للمقارنة بين وضعية العرب في التاريخ ووضعية غيرهم فيه، بما في ذلك الحضارات العريقة التي تأسست خارج المتوسط. ولم تكن لها إدوار المتوسط، كما هو حال اليابان والهند والصين وما بينهما كثير (فيتنام/ كوريا/ روسيا…)
هذا الحكم ما يزال مستمرا حتى يومه، والحجة حالة غزة (وعموم فلسطين) ومنطقة الشام ومصر عموما، إنها تعدل في العلاقات الدولية وفي التاريخ أمما ودولا بقضها؟!
وشدد بلكبير على أن الحضارات، هي من طبيعة إنسانية وعالمية، خلاف الثقافة (والفلكلور أحيانا) وهما من طبيعة اجتماعية- جغرافية، وهو ما يعني أن قيادتها تنتقل بين شعوب وأمم وجغرافيات متعددة ومتنوعة، مرتبطة ومتواصلة ومتراكمة. تأسست أولا بالفلاحة والزراعة والرعي في الأقاليم النهرية، وبالذات في الهلال الخصيب (العراق ثم الشام) ثم إلى مصر فاليونان والرومان وبيزنطة والفرس ثم عادت إلى الشام والعراق والمغارب والأندلس بتأطير وتحفيز وتنوير من العقيدة الإسلامية… هذه الحضارة أنجزت جميع وعودها، احتوت ودمجت وحافظت على فضائل الحضارات قبلها (الفرس، الهند، الصين واليونان خاصة) وطورتها وراكمت عليها… وسملتها إلى أوربا لتستأنف بواسطتها ذات المسيرة من التراكم والتحديث والتقدم لمصلحة الإنسانية جمعاء، كما كان الأمر بالنسبة لسوابقها الحضارية جميعا.
وأتصور أن الأمر، تم في نفس الشروط بالنسبة للشرق الأقصى، حيث تكاملت وتناوبت أقاليمه على قيادة حضاراتها، مع فارق وطاري جديد، فشلت فيه (الفتح) اليونان (الاسكندر المقدوني) ونجح (=الفتح) فيه التجار المسلمون، حيث أوصلوا قيمهم إلى الصين وكوربا والهند وروسيا… وذلك قبل فتحهم جنوب المتوسط نفسه، كما استعاروا منهم، ما عمموه على عالم العصر الوسيط جميعه.
أما بخصوص نهضة الصين الراهنة – يضيف عبد الصمد – فإن الأمر لا يتصل بحضارة صينية خاصة، بل بحضارة إنسانية وعالمية جديدة، تدشنها الصين، ولا تؤسسها أو تبنيها، بل فقط تجربها وتبدع فيها وتساهم في إشاعتها والدعاية لها بالممارسة والإنجاز، لا بالدعوة الإيديولوجية والخطاب السياسي. إنها (ما بعد الحداثة) البورجوازية الرأسمالية الغربية. أقصد برنامج ومبادئ وقيم الاشتراكية في الشروط الوطنية والجغرافية الخاصة بالصين، ما يسمونه (اشتراكية السوق).
لقد تولت الطبقة الوسطى الغربية مهمة تأسيس وتعميم فضائل وخيرات الحداثة على العالمين، سلما أو حربا، وأنجزت وعودها التقدمية كاملة، وانتهت راهنا إلى أن تصبح رجعية، بل ومتوحشة ومتهتكة وفاشلة، وهذا هو (ما بعد الحداثة) لديها. مع بعض التمييز لحالة أوربا الشمالية وبعض الشرقية، وأيضا الرأسماليات الوطنية الفتية والناهضة في البريكس خاصة. غير أن جميع ذلك لا أفق له، إلا أن ينتهي إلى الأخذ، تدريجيا، بقيم الاشتراكية، بترشيد وتنظيف القطاع العام من جهة، والقضاء على الربا وضبط الغش بالقيم الليبرالية الحقيقية والمؤسسة.
لا يتعلق الأمر إذن بـ (أفول الغرب) بل بأفول الرأسمالية التوسعية الربوية والاستعمارية وبزوغ فجر اشتراكية السوق الليبرالية والتي يعمل الشعب الصيني بنجاح وبقيادة رشيدة من حزبه وإدارة دولته، على تحقيق نموذج من النماذج الممكنة والمحتملة بل والمطلوبة، من قبل جميع الدول والشعوب والأحزاب الوطنية وليس العولمية، في عالمنا وعصرنا الراهن.
وفي نظري، فإن هذا النظام الاشتراكي الجديد لعصرنا ولعالمنا، هو الأقرب ليس إلى الإسلام ومنجزاته العقدية والحضارية… بل بالأحرى إلى الدين القويم غير المؤدلج وغير المسيس، (دين إبراهيم وموسى) وهو نفس دين عيسى ومحمد (ص). إن الإسلام هو أقرب إلى الاشتراكية (والعكس) منه إلى الرأسمالية، وأحرى إلى الإقطاعية والعبوية قبلها، ويكفي حجة على ذلك، الموقف من الربا، ومن ملكية الأرض (=أرض الله) واعتبار البشر جميعا خلفاء لله، وليس الحاكم فقط ورفض مفهوم (الآخر) العنصري وإحلال الأخوة الشاملة بين البشر، بديلا عنه؟!
وأكد بلكبير أنه يفضل مصطلح (الوطن العربي) على نعته الاستشراقي بكونه (عالم عربي) ؟ مشيرا إلى أننا جربنا، فالأصح القول، إنه جُرب فينا من قبل الاستعمارين القديم والجديد، سياسات حداثة أو تحديث (الاستتباع) وهو ما نجحوا فيه لمصلحتهم وانهزمت مطامحنا من تجريبه، أو بالأحرى تطبيقه علينا، مرغمين غير مختارين.
تمة فعلا تجارب تحديث وطنية عربية، وذلك منذ القرن 17 على الأقل، ولقد تمكنت من تحقيق نجاحات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية-دينية. غير أن أنها انتهت جميعها إلى الإفشال من قبل الاستعمار، وليس الفشل. وذلك إما بالتدخلات العسكرية المباشرة خلال مرحلة الاستعمار القديم، أو غير المباشرة، نسبة إلى أساليب الاستعمار الجديدة والمتجددة، والتي قد تضطر إلى التوسل بوسائل الاستعمار القديم، حين تفشل وسائله الجديدة. وهو ما يذكرنا بالعدوان الثلاثي مثلا (مصر 1956) / أو استمرار حالة احتلال سبتة ومليلية والجزر/ أو غزو العراق وليبيا واحتلالهما عسكريا حتى اليوم… إلخ فضلا عن أساليب نشر الفتن والفوضى والانقلابات (المدنية والعسكرية) وتشجيع النزعات القبلية والطائفية والجهوية -الفلكلورية والتفكيك واصطناع الدويلات العميلة والوظيفية والاحتلال الجزئي والمؤقت (لبنان ثم سوريا).. إلخ. والحروب الاقتصادية والمالية والتجارية.
الاستعمار الجديد ووسائله وأهدافه… أخطر من الاستعمار التقليدي، في منع التحديث الوطني، بل وفي المس بشرطه الضروري، ألا وهو الاستقلال الوطني والوحدة القومية والسيادة والديمقراطية…
وأبرز بلكبير أنه لا يتصور الإنسان تاريخا وراهنا واستقبالا، بدون الدين. أقصد الدين القويم أو الفطري، والذي يفسر تاريخه وتمدنه وحضارته… ومبادئه وقيمه ومنهاجه… وهي معروفة عموما لغير المغرضين وغير المفسدين.. هذا الدين والتدينات المنبثقة منه والمرتبطة به، احتضنه وحافظ عليه المحتاجون إليه دائما. أقصد جميع الكادحين في المجتمعات والتاريخ…
غير أنه تعرض ويتعرض للأدلجة والتسييس والتوظيف دائما، من قبل الطبقات الرجعية وإدارات دولها السائدة، وذلك عن طريق التفسير والتأويل والتحريف، وبواسطة موظفين مختصين في ذلك، هم الكهنة والسدنة والأحبار والرهبان وعموم من يطلق عليهم (رجال الدين) وفقهاؤه في (علوم) متعددة ومختلفة وغير متنوعة، ذلك لأنها، عموما، تستهدف ذات الأهداف، التي هي ليست بالضرورة ضارة أو فاسدة، خصوصا وأن الفقهاء أولئك، ليسوا متطابقين، وليسوا جميعا مسخرين؟!
ولقد قلت دائما وكررت، أن (ما بعد الحداثة) هو الإسلام القويم، دين الفطرة وإسلام النص، مقروءا بشروط التأسيس التاريخية وبمصالح الجماعة الوطنية أو القومية، والعلاقات الدولية الإنسانية الطارئة والراهنة. هذا الإسلام المتجدد، في قراءاته وتأويله العلمي التاريخاني والشعبي. لا يمكن أن يكون رأسماليا، كما حصل مع الإخوان (وأحرى داعشيا إرهابيا) بل اشتراكيا، كما يفترض أن يحصل مع اليسار، يسار جديد غير ليبرالي وأحرى غير تبعي، خاصة على النمط الرجعي الخليجي. إسلام يذكرنا، فضلا عن السنة الكريمة، بعمر وعلي والغفاري والعز بن عبد السلام والمعتزلة وإخوان الصفا والغزالي وابن رشد وعمر بن عبد العزيز ويوسف بن تاشفين والقاضي عياض والسبتي وعلال وعبد الناصر والسباعي وعمار أوزيجان وياسين والسنوار…إسلام العمل والاجتهاد والمصلحة العامة والتزاحم والتنافس في الخيرات…إسلام الرسل والأنبياء والصلحاء وصحابتهم وتابعيهم… في التاريخ.
لدي في موضوع القيم والمؤسسات المجتمعية، أطروحة تفسيرية شاملة مستمدة من أطاريح متعددة لمفكرين كبارا في الحديث والمعاصر. ملخصها أن (تاريخ) الهمجية والتوحش (ما قبل تاريخ البشر) يمتد لحوالي 7 ملايين عام. في حين أن تاريخهم البشري، ثم الإنساني اليوم، لا يتجاوز بحال وفي الأقصى 20 ألف عام من التدين والتحضر والتعقل والكتابة والدولة … بقيادة طبقات متلاحقة: الأسياد خلال مرحلتين: العبودية والإقطاعية ثم البورجوازية الرأسمالية حاليا، ولقد تأكد خلال تلك السنين الماضية، أنه حالما تستنفد طبقة ما قائدة وسائدة، برنامجها التاريخي، وتتحول من تم إلى طبقة رجعية، فإن ما ينتج عن ذلك حتما وتلقائيا، هو انهيار شامل للأخلاق، وتفكك لمؤسساتها جميعها، وأولها وأهمها العائلة والأسرة والعشيرة والقبيلة… والمجتمع المدني اليوم، فضلا عن إدارة الدولة والاقتصاد والعلاقات الدولية،.. هذا ما حدث في العراق القديم وفي اليونان ومصر الفرعونية والرومان، وما حدث للتجربتين الأموية ثم العباسية وفي أندلس الإمارات (=الطوائف) وأدى إلى سقوطها ثم في الإمبراطورية العثمانية والمغربية، وهو بالضبط ما يحدث الآن للنظام الرأسمالي العالمي السائد اليوم ومختلف الأنظمة الرأسمالية المحلية المشكلة له والمنبثقة عنه، أزمات مالية ونقدية وتجارية… متلاحقة، إفلاس وبطالة وحروب، وتخريب للبيئة وتفكيك للأسر وعلاقات الحب والمحبة والصداقة والجيرة والزمالة، وأيضا للدين وللتدين ومؤسساته وذلك خاصة بأدلجته وتسييسه، وبالإلحاد والعدمية والعبثية والنزوعات الانتحارية والفوضوية والتبطل والضياع واللامعنى والتشرد وسيادة العنف الذاتي ومع المحيط والمثليات والمخدرات…إلخ…إلخ وباختصار، الردة نحو علاقات التوحش الغابوية، وقيم وأخلاق الهمجية والعنف المنفلت والشامل، وهذا بالضبط ما نحن بصدده في العالم المعاصر، تحت قيادة وسيادة المال ورأسمال الربوي والتوسعي الاستعماري، الذي لم يعد له منطق للاستمرار، إلا في شكل تدمير وتخريب للإنسان وللوجدان والفطرة وللطبيعة وللذاكرة والخيال وللدين والتدين وللأمل في المستقبل…
مع ذلك، فإنه يجب الانتباه والتنبيه إلى أن هذه الحالات والأوضاع غير شاملة عالميا، أنها تكاد تكون محصورة في مراكز وتوابع الأنظمة الرأسمالية الربوية. أما الرأسماليات الوطنية الناهضة عموما، والأنظمة الاشتراكية (الصين…) فهي صامدة عموما، تقاوم الهجومات الإيديولوجية المتهتكة والمتلاحقة، القادمة من دول الأطلسي في صيغ ناعمة متحايلة ومتقنعة ومتخفية في التلفزة والسينما والغناء والكرة واللباس والمنشورات والمستهلكات… وما يسمى بـ (الثقافة الجماهيرية) أو (ثقافة الفرجة) والفلكلور…
ولا يجوز أن ننسى في هذا الصدد، أن من أهم عوامل الإجهاز على الاتحاد السوفياتي وخلانه، فضلا عن المخابرات الأطلسية والفاتيكان والصهاينة، كانت سجائر مارلبورو وسراويل جينز وشيوينكوم… إلخ؟!
لقد كان اختراع الدولة وإدارتها، هو أعظم حدث في تاريخ البشرية، بل إنه المؤسس المباشر للتاريخ ومفتاحه، إلى حين، ولا يتصور لذلك أن يتم أمر ما بدونها، وأحرى على حسابها (=الفوضى مثلا). ولذلك فلقد استهدفت دائما، إيجابا أو سلبا.
إيجابا بالنسبة لمريدي الإصلاح والتغيير، وذلك لتيسيره وتسريعه، ومواجهة القوى الرجعية التي تعرقله وتقاومه، سواء كانت داخلية أو خارجية.
وسلبا، بالنسبة للقوى الرجعية، الداخلية أو الخارجية، التي ترغب في الردة والنكوص والرجعة، نحو امتيازات تم حرمانهم منها، أو أخرى يستهدفون الحصول عليها ظلما وعدوانا.
من ذلك في الماضي القريب للمغرب، ما تعرضت له إدارة الدولة من مؤامرات استشراقية، وظف فيها المجتمع التقليدي، بل وحتى بعض بذور المدني (=التجار) من قبل الدول الأوربية الاستعمارية. وذلك تمهيدا لاختراقهم وسيطرتهم، ولقد أفلحوا وانتصروا واستقطوا الإدارة في مصيدة (الحماية) التي لم تكن عمليا، سوى احتلال استعماري مقنع وشامل، لا حماية للدولة المخزنية القائمة، بالأحرى؟!
واليوم، فإن نفس السيناريو، في ما هو رئيس منه، يتكرر في شروط الاستعمار الجديد أقصد اختراق وتوظيف المجتمع (المدني منه والتقليدي) ضد إدارات دولته، بهدف إضعافها وإخضاعها للابتزاز وللاستغلال والهيمنة. وبالمقابل، فإن جميع إدارات الدول الوطنية تقاوم، وإن بوسائل اضطرارية، لا تكون موفقة دائما، مقارنة إلى قضايا وشعارات ما يسمى: حقوق الإنسان/ المجتمع المدني/ الحريات الفردية والعامة/ الحكامة/ دولة الحق والقانون… بل والديمقراطية ومؤسساتها أيضا؟!
إنه تكاد جميع المفاهيم والمؤسسات والقيم التي تأسست من أجل الحداثة والدولة الوطنية الديمقراطية في الغرب، تمسخ الآن وتوظف رجعيا واستعماريا، ضد إدارات دولنا القائمة.. وذلك على علاتها بل ومساوماتها وتنازلاتها الاضطرارية على جميع المستويات للأسف؟!
بقيت لي ملاحظة ما اعتبره خطأ مفهوميا في السؤال، وهو خطأ شائع للأسف، ذلكم هو التفريق بين الحداثة من جهة والديمقراطية من جهة ثانية. والحال أن ذروة سنام الحداثة والتحديث، هو الديمقراطية، أي ما يتعارف عليه بكونه (حكم الشعب نفسه بنفسه) مباشرة وعن طريق نواب منتخبين بنزاهة، أما الباقي؛ فهو من قبيل الممهدات والشروط المحيطة والنتائج الحتمية المرافقة، أقصد مثلا: العقلانية/ الحريات/ المجتمع المدني/ العلم والصناعة/ العلمانية/ الفكر النقدي/ التاريخانية…
تبقى مسألتا دور المثقف والرهان على جمعيات المجتمع المدني (وليس المجتمع المدني فقط) أقول: إن هذين، تعرضا لهجوم كاسح، متعدد المستويات والوسائل، ومهني ممنهج من قبل الأطلسي، وخاصة منه الأمريكي، فتعطلت أدوارها، بل وانقلبت إلى نقيضها في العديد من الحالات والوقائع، إن جميع شعارات الحداثة تقريبا، تم تحريفها ومسخها لخدمة مصالح الاستعمار وذروة ذلك تمت في (ربيع) الفوضى (2011)، حيث ثم تجييش المجتمع ضد إدارة دولته الوطنية، وخاصة منها جيوشها وأجهزة أمنها العامة والخاصة الاستخبارية. وقد تم ذلك أحيانا بشكل صريح وفاضح، حينما رفعت، مثلا، أعلام الاستعمار القديمة في كل من سوريا وليبيا؟! وذلك فضلا عن النهب والتقتيل والتخريب… ومحاولات التقسيم والتفكيك في العراق والسودان واليمن وسوريا، بل والمغرب أيضا (اكديم إيزيك 2010) والجزائر قبل الجميع، في العشرية الدموية إياها (تسعينيات القرن الماضي)، حيث أنهكوا الطرفين (المجتمع والإدارات) ببعضهما، عوض تعاونهما وتكافلهما وحوارهما…
إنه بدون أحزاب سياسية وطنية- قومية، ديمقراطية وذات أفق اشتراكي، فإنه لا أمل من احتمال إصلاح، بله ثورة تحديثية من قبل المثقفين أو هيئات المجتمع، مدنيا كان أم تقليديا؟ والحال أن هذه، قد تم الإجهاز عليها، من قبل الاستعمار والرجعية بشكل عنيف وناعم، ممنهج، شامل وناجح، خاصة عن طريق المحاصرة والتشهير برموزها، وإحداث انقلابات مدنية (ديمقراطية) على مستوى قياداتها المحلية والوطنية؟!
أما النقابات، فلقد كفاهم منها تفتيتها، سبيلا لإضعافها وتهميشها. وهو عطب من أكبر أعطاب انطلاقة الحركة الوطنية – الديمقراطية بعيد الاستقلال الأول للمغرب، وتضاعف مفعوله مع الزمن الرجعي، إلى أن أصبحنا عمليا بدون عمل نقابي وبدون منقبين (أقل من 10% من العمال والموظفين) خاصة وقد تعاور على استهداف الطبقة العاملة بالاستضعاف، فضلا عن الإدارة الترابية والأمن… تجار الاحتراف النقابي الانتهازي من البورجوازية الصغيرة (علمانية ومتدينة)، وللعلم، فإنه لا إمكانية للتحديث، ولا بالأحرى للديمقراطية، بدون طبقة عاملة منظمة، موحدة نقابيا، مناضلة ومستقلة (سياسيا وثقافيا).
وأبرز بلكبير أنه لا تناقض بين مسألتي الحداثة والتحديث، ومسألة (الهوية) إلا بالنسبة لوعي رجعي ونكوصي، إن “جذر الإنسان، هو الإنسان” وليس ماض ما، مهما اقترب أو ابتعد، الهوية صيرورة وخلق وابتكار وإرادة لصناعة المستقبل، وقراءة متجددة ومفيدة لإنتاج وإعادة إنتاج التراث الإنساني كله، وليس الجغرافي (الوطني أو القومي) فحسب … وهذه هي بالذات والصفات، بعض خصائص ومقومات الحداثة والتحديث والعصر الحديث، بل وجميع الإعصار والدهور منذ مئات وآلاف السنين.
أما مسألة العائلة والأسرة، فهذه ليست مسألة هوية وطنية خاصة، بل مسألة هوية إنسانية، لا يقوم للاجتماع البشري قيام بدونها. فإذا تفككت، تفككت الدولة بتفكك المجتمع، ومن تم العودة إلى العلاقات الحيوانية-الغرائزية، أو بالأقل التوحش والهمجية وحياة تجمع القطيع الغابوي وليس الاجتماع أو المجتمع.
وقال بلكبير إنه لا يحكم على الرأسمالية عموما ولا على مجمل نظامها بالتوحش، بل فقط وأساسا على قسم منها عظيم، هو للأسف سائد وقائد، انتهى إلى الاحتكارية والربوية والتوحش… ولم يعدله موضوعيا، شرعية إنجاز ولا مشروعية سياسية ومدنية، بل فقط انحطاط وتهتك ولاعقلانية وردة وتدمير للأسرة والوجدان والطبيعة والعلاقات الإنسانية بين الأفراد والجماعات والطبقات والدول … منذ تأسيسها، كانت (الليبرالية) فوضوية، ضد القانون وضد الإدارة وضد الدولة، ومع السوق بدون حدود. ولكنها كانت فوضى خلاقة. أما الآن فقد أضحت معرقلة للتقدم ومدمرة للمكتسبات، بما في ذلك إدارات الدولة وسيادة القوانين والنظام العام. خاصة بالنسبة لشعوبنا ودولنا وذلك، في نظرها، هو سبيلها لتصدير أزماتها نحو أسواقنا وضمائرنا، وتخلصها هي منها؟!
في المقابل، فإن تمة رأسماليات أخرى وطنية تنافسية صاعدة (بريكس مثلا) وأخرى اجتماعية (اشتراكية) ناجحة (أوربا الشمالية) فضلا عن اشتراكيات، ورأسماليات دولة، تستعين بالسوق والمنافسة الحرة، سبيلا للتنمية وتحقيق التقدم والسلام الاجتماعي والإقليمي والعالمي.
إن الرأسمالية الربوية والإمبريالية أصحت عبئا ثقيلا على جميع المجتمعات البشرية الراهنة، بل هي اليوم تكاد تشبه جثة متعفنة، تحتاج إلى من يحفر لها قبرها ويدفنها فيه صونا لها ولأرض البشر (وإكرام الميت دفنه) ويبدو أن تراكم الأحداث الراهنة، يؤشر إلى ذلك. فتمة تحالف موضوعي عالمي يتشكل تدريجيا، ضدا على توحشها وتهتكها، وذلك من قبل جميع الدول والشعوب المحبة للسلام والطامحة للرخاء.
وهنا نصل إلى الشق الثاني السياسي من الموضوع، أي الجواب على سؤال (ما العمل؟) أو (من يقرع الجرس؟) أو حفار القبر، ومهندس البناء البديل لنظام التوحش والفوضى العارمة والحروب المصطنعة: أهلية وحدودية وإبادية…؟!
أملي قوي في الراهن العالمي، الإمبريالية والرجعيات، يحتضران، والجديد الديمقراطي والاشتراكي يتخلق وينتشر ويسود تدريجيا، وجميع ذلك تحت القيادة الموضوعية للصين الاشتراكية وحلفائها الأقربين. والصين حتما وضرورة، ستخرج من حال سلوك (البقال) حاليا، إلى حال سلوك المسؤول سياسيا على المساهمة في إصلاح العالم والعلاقات الدولية فيه. ولعل إعلان بكين حول فلسطين، يكون أول الغيث في هذا المنحى؟!
أما ثاني الغيث، فهو هذا الذي أطلقه حدث 7 أكتوبر المجيد في العالم، وخاصة شبيبة الغرب، عساها تنهض وتفيق من سباتها الذي أزمن، وانشغالها عن الشأن العام السياسي والنقابي والثقافي…ولا يتم ذلك سوى بتأسيسها، أو إعادة تأسيسها لأحزابها ونقاباتها وجمعياتها المدنية المناضلة والمقاومة للاستغلال وللربا وللاستعمار وللتهتك…
وعن علاقة المسلمين بالتراث يقول بلكبير، لعل من أهم أطروحات المعلم الثاني ومؤسس الحداثة فكريا وثقافيا (=هيجل) قوله “إن التاريخ، ليس سوى استعارة للمستقبل” وهي الأطروحة التي لا يفتأ العروي يرددها ويعمل بها ولأجلها. فعندما نشغل خيالنا، وننتج مستقبلنا حسبه، ونوحد إراداتنا الوطنية لإنجاز برنامجه، فعندئذ سنعيد حتما إنتاجنا لماضينا ولتراثنا ولذاكرتنا حسب حاجيات المصير الذي نقرره لمستقبلنا.
لا يجوز ولا يمكن، ولا يصح، أن تكون حداثة القرن 19، وأحرى الراهن الغربي اليوم، هو خيالنا ومستقبلنا، هذا أمر مستحيل عقلا ومنطقا وواقعا، والحال أن “خيال” بورجوازياتنا وبيروقراطيات إداراتنا عموما، معتقلان في هذا السجن الذهني الماضوي، وهذا المأزق الثقافي المأزوم والمتعذر، بل والمستحيل موضوعيا: اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وسياسيا. وهنا تكمن الإعاقة، أزمة النخبتين القائدتين في الإدارة والمجتمع، إعادة إنتاج أو اجترار الوعي الاستشراقي- الاستعماري، وذلك على جميع المستويات. وأحيانا بشكل معلن فاقع وفاضح، كما هو الحال في نموذج مجلة “زمان” مثلا؟! واستراتيجيات التعليم والتكوين والجامعات والأكاديمية المغربية؟!
في العمق، فإن هذا النمط من التقليدانية للحداثة البورجوازية الغربية المتجاوزة، هو ما نعاني منه، وهو ما ينتج نقيضه (قاعدة وحدة التناقض)، أو بالأحرى وجهه الآخر المتمثل في التقليدانية التراثية (إسلامية أو فولكلورية) والتي تجد تمويلا وتشجيعا، بل وفرضا، من قبل حداثة التبعية الإمبريالية الراهنة والسائدة بالعنف الصريح، كما بالوسائل الناعمة (=السم في الدسم)؟!
إنه لا سبيل أمامنا، مثلما حدث بالنسبة لأجدادنا، أو لمؤسسي الحداثة في الغرب، سوى تشغيل عقولنا وخيالنا في الإبداع والابتكار والاجتهاد الجماعي في العلم والثقافة والسياسة والمجتمع. أما الوعي الاستشراقي المغرض موضوعيا، فهو لن يسعفنا بأمر أو بشيء أبدا.
هذا، مع العلم، أن برنامجنا للتحديث وللحداثة، هو سياسيا اليوم، يعني أولا استكمال الوحدة الترابية، والاستقلال الوطني الاقتصادي- الاجتماعي- الثقافي والسياسي واتحاد المغرب العربي فيدراليا أو كونفدراليا. والانتهاء من إنجاز الانتقال الديمقراطي، بدستور منبثق عن انتخابات موضوعية وسليمة، وتحت إشراف هيئة وطنية نزيهة وخاضعة في تأسيسها لمبدأ التجريح والتعديل…إلخ
الحداثة بالنسبة لنا اليوم = الانتقال النهائي نحو الديمقراطية التمثيلية، شرط الديمقراطية التحكيمية والتشاركية أوالشعبية لاحقا؟! لا أفهم معنى محددا، علمي ومضبوط، لمفهوم (التطرف) ولا لمفهوم (العقل العربي) هذه مصطلحات لمفاهيم نسبية جدا. ولا تعتبر من تم معيارية، ويمكن مقارنتها والقياس عليها، المصطلح في اللغة، يعني اللفظ الموحد المعنى والوحيد الدلالة، وهذا لا ينطبق على اللفظين أو المصطلحين والعبارتين السابقتين.
أما مسألة (الظلم في الشعر الجاهلي) فإن الظلم لا يتصور قبل أو خارج المجتمعات الطبقية. والحال أن شبه الجزيرة العربية في عصرها (الجاهلي) لم تكن ذات طبيعة طبقية، بل قبلية أساسا، ولا يتصور لذلك وجود لظلم في علاقات مكوناتها المجتمعية، بل فقط شد وجذب وكر وفر ونزاع مكرور حول الحمى (مرابع ومنابع) وتقليل للأفواه في الأقصى، كي يتم التوازن في كل حين، بين الديمغرافيا والمحيط البيئي أو الطبيعي، صراع حيوي، أكثر منه اجتماعي وأحرى سياسي، وهذا ينعدم حين تنعدم الدولة. ولم تكن في الجاهلية دولة، بل فقط بعض نوى أو إدارات وظيفية في الأطراف، لخدمة أمن الإمبراطوريات المجاورة (الفرس، بيزنطة خاصة) في العراق وفي الشام خاصة؟
تأسست للعرب دولة، ومن تم خروج من الجاهلية، بالدعوة الإسلامية (في المدينة)، عقيدة وتعبدا وبرنامجا، وبذلك توحدوا وخرجوا من أزماتهم القبلية والحيوية، صدورها وانتشروا بها في العالم، بانتشار الدعوة، وبها سادوا وقادوا وأسسوا لحضارة جديدة.
وأشار بلكبير إلى أن محاولات الإصلاح ونهوض الإدارات العربية والطبقات الوسطى بها، لم تتوقف قط، وذلك منذ مفترق طرق القرن 15 بسقوط الأندلس واكتشاف أمريكا أوربيا، والطرق التجارية… البحرية الجديدة، ومن تم معركة (وادي المخازن) التاريخية التي أخرجت دولتي الجزيرة الإيبيرية (اسبانيا والبرتغال) من ريادة النهضة الأوروبية، ثم توجه المغرب جنوبا نحو افريقيا، سبيلا للتعويض عن المتوسط (شرقا وشمالا) ونفس المحاولات شملت جميع الأقطار العربية تقريبا. بما في ذلك خاصة حركات المقاومة البحرية (=القرصنة) في المغارب. وحركة الإصلاح الديني والسياسي في شبه الجزيرة العربية (الحجاز ونجد واليمن…) والنهضة الاقتصادية في الشام (لبنان خاصة) وإنجازات محمد علي ثم إسماعيل في مصر وسيدي محمد بن عبد الله والمولى سليمان وعبد الرحمان … في المغرب بلوغا إلى الحسن الأول .. ويكفي أن فرنسا كانت مدينة للجزائر، عندما تم احتلالها فرنسيا، لا للتخلص من الدين، بل وأيضا لحل أزماتها الاقتصادية عن طريق الاحتلال العسكري والسياسي-الاقتصادي والاجتماعي والثقافي… لها؟!
وبالموازاة لذلك جميعه، فلقد واكبه حركة إصلاح للتعليم والإدارة والجيش بل وللممارسات الدينية والاجتماعية نفسها، وجميع ذلك لم يتوقف، إلا بدخول الاستعمار واحتلال الأرض واغتصاب السيادة، ومن تم الدخول في تاريخ جديد من التبعية والتحديث على النمط الاستعماري، بديلا عن الحداثة الذاتية والمستقلة، وذلك حتى يومه عمليا، للأسف الشديد؟!
لقد أكدت دراسة في جامعة أمريكية من قبل 30 باحثا في مختلف اختصاصات العلوم الإنسانية واستغرقت ربع قرن، أن منتوج التحديث الاستعماري، كان في المجمل سلبيا مقارنة بالحداثة الذاتية، وذلك في نقطة مركزية هي موضوع التبعية. فكل ما أنجزه الاستعمار التقليدي من منجزات التحديث لمستعمراته العربية، انتهى إلى ترسيخ الاستتباع للمراكز الرأسمالية الغربية، وتعقيد برنامج استكمال الاستقلال وتحقيق السيادة الوطنية والوحدة القومية عن طريق التنمية المستقلة؟! قرائن ذلك متعددة، لعل أبرزها المسألة الدستورية مثلا، والتي انطلقت لدينا منذ 1908 وهي حتى يومه ما تزال متعثرة؟ وذلك فضلا عن قضايا استرجاع وحدة التراب الوطني، بين استمرار الاحتلال (المدينتان و…) ومحاولات التجزئة والانفصال والنزاعات.. إلخ والحدود المصطنعة بين الأقطار المغاربية ومع الجنوب الإفريقي والوطن العربي…إلخ ولقد ورث الاستعمار الجديد كل ذلك، ورسخه ونصب وكلاء عنه محليين لتدبيره والمحافظة عليه، وزاد في شعره بيتا، وفي عجينه بلة، وفي مستنقعات مفاسده، إفسادا؟!
والأخطر من كل ذلك، هو استحالة التقليد الاجتماعي والثقافي والديني كفضيلة وضرورة.. إلى التقليدانية كإيديولوجية محافظة وأحيانا رجعية، فرضها التدخل العنيف والمخاتل للاستعمار، وما اقتضاه من رد فعل مقاوم وحمائي، قبلي جهوي ووطني.. من قبل الإدارة والمجتمع؟
الاستقلال الوطني، يسمح بجدل التقليد والتحديث، في حين إن التحديث الاستعماري، يمسخ التقليد إلى تقليدانية، وهذا ما يفسر، كون المجتمع المغربي قبل الغزو الاستعماري كان شديد الانفتاح عموما على الحداثة الأوربية، وإصلاحاتها، وحالما دخلت الحداثة الغربية غازية بالعنف والسلاح، ارتد المجتمع وإدارة دولته نحو المحافظة والتقوقع والشعوذة والسحر وعبادة الموتى والأوثان…إلخ والتي لم تنطلق عملية تحريرهم منها، إلا مع انطلاق الحركة السلفية ثم الحركات الوطنية ثم اليسارية، وعملية التنوير هذه، مستمرة ما تزال حتى يومه؟!
كان المرحوم الشهيد عمر بنجلون، كثيرا ما يردد أطروحة الاقتصادي الفرنسي شارل بتلهايم التي يرد فيها على فساد المقارنة الإستشراقية الفاسدة بين (تقدم) الغرب و(تخلف) نا؟ بأنه لا تجوز المقارنة منطقيا بين مختلفين. ذلك لأن نهضة وتقدم الغرب، لم يتما إلا بسبب تخلف ضحاياه ومستعمراته. فالعلاقة هي إذن بين مستعمِر ومستعمَر، لا بين متقدم ومتخلف، كما تصور خطا الرائد المتنور والمستشرق المسلم (شكيب أرسلان) في عنوان كتابه الأشهر (لماذا تأخر المسلمون، وتقدم غيرهم؟) يشخص بتلهايم الصورة في منجم يتعمق استغلاله (نحن) وعمارة تتعملق من ترابه (الغرب)؟!
أما الحديث عن القرن العشرين، ومحاولات نهوض الطبقة الوسطى الإصلاحية والنهضوية العربية فيه. وأبرزها كان الطهطاوي والأفغاني وعبده وطه حسين…إلخ. فهذه محاولات تمت في ظل الرهان على نهوض في ظل الاحتلال. ولقد ثبت أنها محدودة الإمكانيات وقاصرة الأهداف، بل ومستحيلة الإنجاز، إذ لا تنمية شاملة ولا ديمقراطية ناجزة.. في ظل الاحتلال والتبعية؟!(حالة فلسطين راهنا؟)
لقد انتهى عبده، على أهميته، إلى التماهي مع الاستعمار، وانطلق طه حسين من منطلقاته، وكانت الحصائل محدودة الأهمية وفقيرة المردودية. واحتاجت إلى مبادرات لاحقة للطبقة الوسطى الصغيرة للرهان على رأسمالية الإدارة، وتاريخهما على عظمته وجلاله، كان عموما مأساويا حتى الآن. (ناصر، بومدين، صدام، القذافي…) وما تزال الشام صامدة، ناهضة ومقاومة حتى الآن؟!
لقد كان عطب الطبقات الوسطى والصغرى العربية الرئيس، هو استلابها الفكري والسياسي للنمط الرأسمالي الغربي في النهوض والتقدم والديمقراطية، وذلك خاصة في مرحلته الأمريكية الجديدة، مرحلة الاستعمار الجديد، الذي تحررنا فيه جزئيا من النمط التقليدي الأوروبي، وسقطنا في ما هو أسوأ منه (قيام إسرائيل مثلا) إنه نمط التفكير الاستشراقي الأطلسي الجديد، يعيد إنتاج الرهان على النهوض في ظل الاستعمار (قديمه وجديده). وفي الحالتين خطا جسيم، لا مجال للتكرار والتقليد في التاريخ، لا إمكانية للانطلاق من حيث انطلق الغرب الرأسمالي، ولا مجال لتقليده ومسايرته، بل فقط الانطلاق من حيث انتهى إليه، لا من حيث انطلق وسار. وذلك لا يعني اليوم سوى إيديولوجيا واستراتيجية، الوحدة القومية (العربية) والقارية (الإفريقية) والثقافية (الإسلامية) ونهج الاشتراكية والديمقراطية الجديدة و/أو المباشرة. وهذا ما نحتاج معه قوميا إلى تحرير الطبقة العاملة من قيادة البورجوازيات لها حزبيا وسياسيا ونقابيا وثقافيا، وبناء حزبها الثوري، متحالفة مع مثقفين مناضلين لا تجارا، وعموم الفلاحين والكادحين والعاطلين؟
مرة أخرى يتأكد، أنه لم يكن في الإمكان تحقيق نهوض الطبقة الوسطى وتقدمها في جغرافية متجاورة (الأبيض المتوسط) وعصر واحد، هذه مهمة أنجزتها بورجوازية الشمال الأوروبي والغربي عموما. وما على جنوبه وشرقه، إلا اجتراح نهج خلاق وخيال ابتكاري ورهان مستقبلي مستقل وجديد؟.
من حيث المبدأ والمنطلق، فإنه لا تتصور حداثة وتحديث، ولا بالأحرى دخول العصر الحديث ودولته الديمقراطية… بدون العلمانية، أي عمليا، الطلاق البائن مع الدولة قبلها، الدولة الدينية للعصور الوسطى والقديمة، حيث الحكم باسم الله، من قبل نصف إله أو خليفة له، أو ظله على الأرض؟!
ولكن ما العلمانية؟ إنها مبدئيا، فصل الدين عن إدارة الدولة (وليس عن الدولة) وربطه إلى إدارة المجتمع، حصنا للمقاومة وسلاحا للدفاع، لا فصل الدولة عن الدين، باعتباره ملاحظا وناقدا ومرشدا، ومقترحا وناصحا… لا متسلطا وفارضا بالقوة والعنف، كما يمكن لإدارة الدولة أن تفعل به، إذا هي تحكمت فيه ووظفته إيديولوجيا وسياسيا، كما حصل دائما في التاريخ، تاريخ الدين وتاريخ استعماله من قبل إدارات الدول في العصرين: القديم والوسيط؟
إن أصل الدين وجذره في التاريخ، وما قبله، أنه (علماني)، ذلك على الأقل للدواعي التالية:
- إنه سابق تاريخيا على تأسيس الدولة، لقد وجد قبل وجودها. هو ظاهرة وجودية، فلا يتصور وجود للإنسان بدونه. في حين أن الدولة والسياسة، ظاهرتان تاريخيتان لهما بدايات معروفة. ولاشك أن لهما خاتمة منتظرة ومتوقعة. بل وحالة راهنا، لمصلحة سيادة المجتمعات على تقرير مصائرها.
- لقد دأب الدين أبدا، في الابتعاد عن إدارة الدولة، بل وغالبا في مخاصمتها وانتقادها والاعتراض على سياساتها، عندما تكون فاسدة وظالمة، ولذلك فلقد مورس اضطهاد مستمر على الرسل والأنبياء والصلحاء (إبراهيم، موسى وعيسى…) وبالمقابل، فحالما يتمكن الدين من إدارة الدولة، إلا وتتعرض للحصار والاضطهاد من قبل محيطها الوثني هذا ما حصل لاخناتون وخليفته موسى، وما حصل للنبيين- الملكين: سليمان وداوود… ومملكتهما الموؤودة؟!
- من طبيعة الدين وشروطه، أن تكون دعواه ذات طبيعة عامة وإنسانية موجهة لبني البشر جميعا، في حين أن الدولة هي دائما ذات طبيعة جغرافية محددة وخاصة، وحتى عندما تطمح لكي تكون عالمية أو عولمية (الاسكندر…) فإنها تستمر غير متساوية ولا موحدة بين طبقاتها ولا بين مركزها وأطرافها، وهو خلاف ما تدعو إليه الديانات جميعا.
يتوسل الدين في دعوته وشيوعه إلى الانتشار في الأرض وإقناع الأفراد والجماعات سلميا. ولكن المتضررين من قيمه وبرنامجه (شيوخ القبائل/ سدنة الأوثان/ السحرة/ قطاع الطرق/ والمشعوذين…) يحاصرونه ويحاربونه بالسلاح، فيضطر إلى مقاومتهم، بإدارة دولة قائمة، أو يقيمها. غير أن ذلك يرتد عليه بالسلب لاحقا، وذلك عندما تعمد هذه الأخيرة إلى توظيفه سياسيا وإديولوجيا، ضداً على مبادئه ومثله وأهدافه، وهو ما يلجؤه في كل حين، إلى المطالبة بعدم التدخل في شؤونه، أي عمليا إلى العلمانية.
أما بالنسبة للتجربة الإسلامية، فإن لها خصوصية على هذا الصعيد، مقارنة بسوابقها جميعا!.
لقد انطلقت دعوة الرسول (ص) علمانية أصلا، في مجتمعات لا دولة تحكمها، وهو لم يسع إلى إقامتها (=الدولة). وحينما اقترحتها عليه نخبة قبيلته السائدة مساومة له من قبلها، حتى يتنازل عن برنامجه الاجتماعي-الديني (=الثوري) اعتذر، وفضل أن يستمر مضطهدا، على أن يكون حاكما في بنية ظالمة وفاسدة، وخرج بالدعوة من مكة أولا نحو محيطها، ثم من شبه الجزيرة جملة، إلى خارجها؟
لقد كان تأسيس نواة إدارة الدولة في المدينة، حدثا سياسيا طارئا، و(لا دينيا) في الأصل والمنطلق، كانت دعوته إليها من قبل أهلها، بهدف التحكيم لا الحكم، والسلام لا الحرب، والعدالة لا الظلم، موقف تجار قريش المرابون، وشيوخ القبائل الوثنيون والفوضويون وقطاع الطرق…هم من فرض على أهل المدينة مقاومة حصارهم وعدوانهم، ومن تم اضطروا للتسلح والتجييش وفرض نظام (اشتراكية الحرب، على نمط اسبرطة وقلعة مسعودة…). إذن تأسيس نواة إدارة دولة، وصفت بأنها إسلامية. واستمر الأمر نسبيا كذلك، إلى حين قيام الدولة الأموية، حيث أعيد وضع الفصل بين دين المجتمع ومقتضيات وضرائر إدارة الدولة السياسية…وهو ما يفسر بالمناسبة، سيادة الفقه المالكي (=الروماني) من جهة، والدور الخاص والاستثنائي لمفكر المرحلة التأسيسية (ميكيافيلها) الصحابي الجليل أبو هريرة؟!
ومن تم، جدل التجاذب، التوافق والتقاطع والصراع… بينهما، جميع المذاهب الفقهية تأسست في حضن المجتمع، بعيدا عن الإدارة، وأحيانا على حسابها (ابن حنبل…) وتجربتها في توظيفه (=الدين) على يد المامون والمعتزلة، انتهت إلى الإخفاق، ومع فتوح البلدان، انفصل عمل الفاتحين عن الدعاة المرافقين، بل لقد كان الفاتحون يفضلون، اقتصاديا، وضع “الذمي” على “الإسلامي”، وهو ما يفسر استمرار عشرات الطوائف الدينية العربية حتى يومه (عدا أقطار المغرب العربي، حيث حوفظ على اليهود وحدهم، لحاجات الإدارة السياسية إلى وظائفهم، القذرة، عموما؟) ولم تكن بواعث ذلك في المشرق، دينية متسامحة، بل اقتصادية-اجتماعية وسياسية- ثقافية… مغرضة. ولا تستحق لذلك، الاعتداد بها كإنجاز حضاري، كما يفاخر بعض القومجيين ؟! طرح المشكل في التجربة الإسلامية مختلف ومعكوس، مقارنة بالتجربة الأوربية، فالانحراف الديني، وتوظيفه إديولوجيا وسياسيا، أتى في الإسلام من المجتمع لا من الدولة، ذلك كان في القرن الخامس الهجري خصوصا، ومع الحركات الإسماعيلية (القرامطة خاصة) وغيرها كثير، حيث وظف لخدمة الانفصال والعدوان والإرهاب والردة وعبادة الأضرحة والأحياء…والشعوذة والسحر.. ما هدد كيان النظام وإدارة الدولة، بل وهدد استمرار سيادة الدين نفسه. إن هذا عموما، هو ما دفع رئيس الحكومة (نظام الملك) إلى دعوة الغزالي والاستنجاد به للتدخل فكريا وثقافيا، حيث تجاوز الخطر، حدود إمكانيات الجيش والأمن والقضاء والسجون…؟!
كان جواب الغزالي، إن أصل المعضل يوجد في الدين نفسه، الذي يحتاج إلى إصلاح عميق وشامل، يعيد إليه جذوته ووحدته وسيادته، فأسس لذلك، ونشر، ما سمي وعرف بـ”المدارس النظامية” لتخريج فقهاء الدولة، ليس بديلا، وإنما إلى جانب المساجد الجامعة التي تخرج فقهاء المجتمع. فكان هذا التدخل للدولة في إدارة الدين، إصلاحا له وتقويما، خلاف الوضع الذي كان قائما زمن الإصلاح الديني في أوروبا النهضة والإصلاح الديني، ومن تم العلمانية على النمط الغربي؟.
التجربة الأوربية في الإصلاح الديني إذن، كانت مختلفة، لم يكن الصراع حول الدين ومعه، بل مع الكنيسة وسلطات رجال الدين فيها. الأمر الذي لم يكن له مثيل مطابق في التجربة الإسلامية.
لقد كان الصراع هنالك أساسا، هو بين طبقتين، إحداهما قائدة حاكمة وسائدة، هي الإقطاعية، وذلك في مقابل طبقة وسطى (صناعية-تجارية) جديدة وطامحة للحكم والسيادة، وكانت الكنيسة بينهما، لا الدين، محرجة ومتورطة بل وممزقة. ومن أجل إبعاد الدين عن امتهانه سياسيا وتوظيفه أديولوجيا. سعى رجال الدين المصلحون (لوفر، كالفن، الطهريون…) إلى إبعاده عن الصراع بين الطبقتين، حفاظا عليه، لا بالأحرى تجديدا له أو إصلاحا، لم تكن العلمانية في الأصل إذن، أبعادا للدولة عن الدين، بل العكس، إبعادا للدين عن الدولة كانت حركة محافظة، وأحيانا حتى، رجعية، غير أن عواقبها التاريخية، الاجتماعية والسياسية، كانت تقدمية. ذلك لأنها أضعفت الإقطاعية من حيث حرمانها من المشروعية الدينية (=الكنيسة) وأخلت بذلك الميزان لمصلحة بديلها التقدمي، البورجوازية الصناعية والتجارية الثورية الصاعدة، وكان ذلك شرطا، غير مقصود ولا مباشر، للثورة الفرنسية، وبالتالي لدخول العصر الحديث ومن تم العلمانية والحداثة والتحديث.
العلمانية أو العلمانيات اللاحقة، خاصة منها الفرنسية، لا علاقة لها عضوية ومباشرة بهذا التاريخ. هي أقرب إلى العدمية واللاأدرية، بل والإلحاد، منها إلى مسألة الفصل بين الإدارتين السياسية والدينية، هي بالأحرى تكاد تكون دينا جديدا. أو بالأحرى ردة إلى ما قبل الدين والتدين، إلى الوثنية والغرائزية والتهتك وعبادة الذات…(الفردانية الأنانية).
تجارب الإصلاح الديني الإسلامية اللاحقة، أعادت التأكيد على الجدلية الإيجابية للعلاقة بين الدين والسياسة، وذلك منذ الثورة الوهابية والإصلاح السياسي الناتج عنها، (توحيد وتأسيس دولة في شبه الجزيرة) إلى الحركات السلفية، ودورها في تأسيس وشحذ حركات المقاومات الوطنية ضد الاستعمارين القديم والجديد، بلوغا إلى حماس السنوار (الجديدة والمختلفة عن مرحلة مشعل) في فلسطين المجاهدة. (غزة العزة خاصة)
جدليات علاقات الدين والتدين بالسياسة وإدارات الدول، لا تقتصر على استقلال وتبعية، بل على أنماط أخرى أكثر وأعقد في الممارسات الملموسة: علاقات: تطابق/ تناقض وصراع/ تقاطع/ توازي/تمفصل…إلخ. أما الخطابات التجريدية في هذا الموضوع، فهي محض ثرثرة؟!
ويجب لذلك تجاوز المواقف النظرية والتاريخية العامة، إلى المعاينة والتحليل الملموس لكل حالة ووضعية للعلاقة، أو العلاقات على حدة؟!
المشكلات الوطنية متعددة ومتنوعة، وتتوزع الآراء والاجتهادات حول تحديدها وتصنيفها وترتيبها حسب الأولية، وذلك حسب خلفيات التحليل الإيديولوجي، وحسب رهانات المخارج السياسية المطلوبة والممكنة. ما هو تقديركم أنتم للمسألة؟
معضلات الوطن شعبا وإدارة، تكاد لا تحصى عددا هي موروثة وطارئة، متواكبة مترابطة، ومعقدة ومتحركة من حيث ترتيب أولوياتها ومداخلها … ولقد جربت معالجاتها، ولم تفلح سوى جزئيا ومؤقتا. ويمكن مع ذلك عرضها، حسب طروحات الجهات الاجتماعية المختلفة والمتصارعة في المجتمع والإدارة.
- الطرح الاقتصادي-الاجتماعي المختصر في عنوان “التنمية” جوابا بالنسبة لمن يطرح المشكل كتخلف أو تأخر، ويوسع البعض المسألة إلى شعار (النهضة) حيث يشمل الموضوع قضايا ثقافية.
- مسألة استكمال وتثبيت الوحدة الترابية. وحول هذا إجماع، لا يشمل وسائل تحقيق ذلك؟
- المسألة الديمقراطية في مواجهة من يعتبر المشكل في المخزنة او الاستبداد؟ ولا اتفاق حول مفهومها؟ ولا حول مداخلها: هل هي الحريات (وهل هي فردية أم ديمقراطية)؟/ نزاهة الانتخابات؟/ ومن يشرف على إدارتها؟/ بل والمسألة الدستورية نفسها، من له الحق في وضع الدستور (ممنوح؟ أم من قبل هيئة تأسيسية)؟.
- قضايا الهوية (من نحن؟ وماذا نريد أن نكون؟) وتطرح هنا قضايا الدين والقومية والخطابات الفلكلورية؟ (الردة نحو اللهجات) ومن تم تفكيك النمط الموروث والسائد للوحدة؟
- قضايا التعليم بمستوياته، والتكوين ومحاربة الأميات، والمسألة الثقافية والإعلام… وعناصرها معروفة نسبيا بالنسبة للجميع.
- المسألة الاجتماعية وتشمل الفوارق الطبقية والمجالية وبين القرى والمدن (الإصلاح الزراعي والقروي) كما تشمل قضايا التشغيل والسكن والصحة والبيئة والأمن.. إلخ
- وأخيرا، وبالنسبة للكثرين، هي أولا، مسألتي الوحدة المغاربية ثم العربية، فهذا هو المفصل الرئيسي والمدخل القويم لعلاج جميع المعضلات. فالمغرب مجتزأ من محيطه الجغرافي -الاقتصادي- الاجتماعي- الثقافي… والتاريخي كولاية يجب أن تتحد مع بقية الولايات المغاربية والعربية في صيغة (ولايات متحدة عربية) أو (اتحاد عربي) نظير الاتحاد الأوروبي أو بالأقل الإفريقي، أو بأقل الأقل، نمط ومستوى (مجلس التعاون الخليجي)؟.
- ومن قبلي أضيف مدخلا متعدد الأهمية ويفترض أن يتم حوله إجماع وطني. وييسر حل معضلة (من يقرع الجرس؟)، أقصد تشريع دستوري لمبدأ وقانون (التجريح والتعديل) حيث يجب أن تخضع له الجهات التالية: القضاء/ مؤسسات الحكامة/ المناصب السامية/ والمرشحون للانتخابات التمثيلية والاستشارية الجماعية والمهنية.
إن استقلال القضاء يجب أن يعني (استقلال القضاة) وهذا يتطلب شرطا، توفر أعلى درجات النزاهة والكفاءة والشجاعة والحصانة…للقضاة قبل تنصيبهم لإصدار أحكام تقرر في المصائر أحيانا؟
هذا العلم أو النهج (التجريح والتعديل) هو أهم ما ابتكرته الحضارة العربية- الإسلامية، ومن أهم ما يفسر قيامها وازدهارها وعطاءاتها الجليلة للبشرية.
عصر الحداثة والتحديث لم يطو بعد، وبرنامجها ووعودها لم تستنفد بعد أيضا، وذلك سواء بالنسبة لنا أو بالنسبة للغرب نفسه. إن مسألة (ما بعد) هذه، سابقة لأوانها ليس بالنسبة للحداثة فقط. وإنما أيضا لخطاب (ما بعد الاستعمار) الشائع والمغلوط والمخادع والمرتبط بها أيضا. فالاستعمار لم ينته بعد في العالمين، بل هو مستمر ما يزال، فقط هو يتجدد ويتغول بل ويتوحش، لا بالنسبة لضحاياه عندنا، بل أيضا بالنسبة لشعوب الغرب نفسها، وذلك في شكل بطالة وتضخم وتشرد وتفكك عائلي ومخدرات وضياع وخواء روحي وتفاهة ثقافية وعبت وفقدان للمعنى والبوصلة وانحطاط أخلاقي وسلوكي…إلخ.
وكذلك مسألة الحداثة، فهل حققنا نحن شروطها ووعودها: قيام الدولة الوطنية والقومية الموحدة المستقلة والديمقراطية وذات السيادة، ناهيك عن بقية مظاهر الحداثة بالنسبة للمواطنين تعليما وتثقيفا وتشغيلا وصحة وسكنا وبيئة وترفيها وحرية وسعادة؟
والأمر يشملهم في الغرب أيضا، فالديمقراطية أنواع ودرجات ومستويات. ولعل أهمها المباشرة (نمط سويسرا، وليبيا قبل الإجهاز عليها) أو الاجتماعية (أوربا الشمالية) أو الاشتراكية المأمولة حيث لكل حسب حاجياته، وليس فقط، حسب عمله؟! والاشتراكية، هي الأفق التاريخي اليوم للحداثة وللتحديث؟
يقول المعلم 4 “إن البشرية لا تطرح على نفسها من الأسئلة، إلا ما تستطيع الإجابة عنه”، وإلا سقطت أجوبتها في الرؤى والغيبيات والميتافيزيقا، يجب أولا إنجاز المطلوب والممكن موضوعيا وتاريخيا، ولتتحمل الأجيال المقبلة، مسؤولية الإجابة على معضلاتها الخاصة بها، كما أجابت وتجيب البشرية الحديثة والمعاصرة، على تحدياتها الطارئة والراهنة.
الحضارة هي دائما ذات طبيعة إنسانية، لا جغرافية ولا قومية، غير أن من تقودها عالميا، وفي كل حين، هما، جغرافية وأمة محددين، ولاشك أن القيادة الحضارية اليوم هي بيد الغرب عموما، وأمريكا خاصة، غير أنها تحتضر على جميع المستويات، تتفكك وتتآكل وتنهار تدريجيا. وذلك بانهزام أدوات استعمارها واستغلالها لشعوبها ولشعوب العالم.
ولأنه لا محيد ولا مهرب عن بديل يقود، كما حصل في التاريخ منذ العاشوريين، والفراعنة واليونان والرومان.. والفرس… ثم العرب. فالمؤهل اليوم، هو الشرق عموما، وفي طليعته الصين، والمشرق العربيين عندما تتحد إرادته، وتتأسس دولته، ويتمكن من استثمار موارده الجغرافية (البشرية والاقتصادية…) والثقافية (الدين والتراث) وتتسع وتتعمق تحالفاته الثقافية مع الفرس والترك والكرد…خاصة وهو الأمر الذي لم يعد مستبعدا، مقارنة إلى الأمس القريب، وذلك بفضل المقاومات (الشعبية والإدارية) والتحالفات القارية والإسلامية والدولية. وأيضا تراخي قبضة الإمبريالية الأطلسية وأدواتها الرجعية في المنطقة.
أما حول (الربيع) فهو لم يكن كذلك، إلا بالنسبة لمن اصطنعوه فتنة ومقامرة على عموم الشعوب العربية، وأقصد حلف الأطلسي والصهيونية والرجعية الإخوانية واليسروية الليبرالية، وذلك بسبب إضاعة البوصلة الوطنية وتحريف الطاقات النضالية العربية، وإحداث شروخ بين المجتمعات العربية وإدارات دولها لمصلحة الاستعمار الجديد؟
ولاشك أن للعلم، وللثقافة (وهي العلم متنزلا في الميدان) وبالتالي المثقفين، دورا، بل أدوارا في المجتمعات والتاريخ جميعا. بما في ذلك حركات التحرر العربية من الاستعمار التقليدي، غير أننا يجب أن نعترف، بأن الاستعمار الجديد، تمكن من تهميشهم وتعطيل أدوارهم في الراهن العربي، وربما الغربي أيضا. وذلك خاصة بالتدابير والمخططات الممنهجة التالية:
- إفساد التعليم عموما، والعالي منه خصوصا، وذلك بفصله عن الثقافة (ذاكرة وخيالا) ووسائلها (أهمها الكتاب والمجلة) وتمييع التكوينات الجامعية وتتفيه الشهادات… ونفس الأمر بالنسبة للإعلام والمؤسسات الثقافية. (أضحت جماهيرية وفرجوية فولكلورية…)
- تهميش المثقفين، بل ومحاربتهم، ومحاصرة إنتاجاتهم وأنشطتهم وجمعياتهم (حالة اتحاد كتاب المغرب).
- ضياع و/أو تضييع البوصلة بالنسبة للكثيرين منهم، وذلك خاصة بشراء ذممهم، وتشجيع الانتهازية في أوساطهم، وتمويل التفاهات في ندوات ومؤتمرات ومجلات ودور نشر وجوائز هي غالبا بمثابة (تعويض خدمات)؟
- تشجيع الهجرة والتهجير، وذلك بالإغراء كما بالمضايقات، من مختلف الأنواع والمستويات.
- الاختراق الإداري والأمني لعموم هيئات المجتمع، بما في ذلك الأحزاب والنقابات، ما ينفر المثقفين ويبعدهم عن محيطهم الشعبي الضروري لهم متنفسا وحصانة.
ومع ذلك، فإنه لا يصح إلا الصحيح، سيعود المثقف العربي إلى موقعه الريادي، وستعود للثقافة العربية النقدية والديمقراطية أدوارها في التنوير والتحصين والقيادة. وما حالة المقاومات الراهنة، في غير ما جبهة وطنية وقومية وإسلامية… عربية، سوى مؤشر دال على كل ذلك المأمول والمنشود والحتمي، في قريب غير آجل، حيث يعود المثقف إلى شعبه، وتعود الثقافة إلى مواقعها وأدوارها.. كما كان الأمر دائما في التاريخ الوسيط والحديث العربي، ورموز ومظاهر ذلك تاريخيا معروفة ومعترف بها من قبل الجميع.