محمد حمزة
حسب الجملة الحكمة “لهرقليط” “الكل في جريان مستمر” ،فالحياة هي جريان دائم تشبه النهر فالنهر ثابت والماء يتبدل وقاع النهر في تحول مستمر.
الضوء في هذه الحكمة الكونية “لهرقليط” “ظلمات” لان هذا الجريان الدائم ينفي كل تنبؤ ويؤذي حتما إلى وحجة الكائن الحي.فالتغيير هو تغيير مستمر فكل كائن حي هو من جهة فريد ومن جهة أخرى مختلف على ما كان عليه في اللحظة السابقة.
فالحياة بهذا المعنى في تطور دائم تمتلك قابلية لا متناهية وتتقمص أشكالا جديدة عبر السنين فالمادة البيولوجية الإنسانية تشارك في هذا التحول الثابت والوفي .والإنسان كسائر الكائنات الحية له قابلية مدهشة ولا متناهية للإبداع .فمنذ وجوده على هذه الأرض ترك الإنسان الحجة والدليل القاطع لهاته القابلة ليتحدى حدوده البيولوجية ويسبح في فضاء لا متناهي من الخلق والإبداع.
إن الحياة لم تظهر فجأة بل هي تراكم تطوري يقدر بملاين السنين مصحوبة بتعقيد ارتقائي فداروين كان الأول الذي أعطى للحياة عمقا في التاريخ بكلمته العالمة”الهياكل اللامتناهية”لقد ضيعنا الكثير من القدرات التي كان يتمتع بها “الأجداد” الأوائل لكن ربحنا “مخا”غنيا”بالنورونات” فالحدث السعيد كان هو ظهور “”الوعي” والذي هو الأخر لم يكن ظهورا فجائيا بل خروجا بطيئا من الظلام رغم أن هذا الخروج لم ينته بعد.
إن المادة البيولوجية الإنسانية انطلقت من الأرض.فنحن كسائر الكائنات وكل ما هو موجود في هذا العالم نتاج تاريخ طويل بدايته الانفجار العظيم والذي يقدر بحوالي 15 مليار سنة .فالإنسان طاقة أخرى زادت طفرة نوعية لهذا التاريخ الإنسان لم يكتشف العالم البعيد المنال لكنه اكتشف عالما مكررا يمكنه أن يعانق فيه “إنسانيته”.
المجتمعات البشرية , شأنها شأن سائر النظم الحية , نظم مفتوحة و هذا حكم الديناميكا الحرارية المعممة فهي تتبادل الطاقة و المادة مع بيئتها. وتعد دراسة هذه المبادلات و عمليات الانتقال هي المهمة الأساسية لعلوم الاقتصاد و الإيكولوجيا . و يبلغ تعقد النظم المفتوحة درجة تجعل من المستحيل أن نراها تمر أثناء تطورها أو تاريخها , بحالة التوازن نفسها أكثر من مرة . و على ذلك لا يوجد أي احتمال لأن نعيد بناء مجتمعات الماضي . فالتاريخ لا يعيد نفسه و سبب ذلك مفهوم حق الفهم أي استحالة العودة إلى الماضي .
مع الثورة الكوبرنيكية و الثورة الداروينية انهارت الخرافة و شعار ” الكل لغز ” و العلل خارج الظواهر. فتشتيت اللغز في الحياة العادية يحرض على الكسل الثقافي٬-;—;– و الاعتقاد باللغز ينشر الثقة العمياء في الشعوذة و الدجل و بالتالي ينجم عن هذا فكر التعصب بنتائجه الكارثية.
العلم الكلاسيكي سقط هو الآخر في اختزال علموي ،ناصر و لو بخجل الكل واضح” و الذي يوهم بأن بضع كلمات بسيطة كافية للجواب على الأسئلة الجوهرية التي تواجه العلم الآن . إن مناهضة فكرة «الكل لغز» ، يقول المفكر الباريزي برنار سبانات” ، مناهضة فكرة «الكل لغز» لا تعني أن « كل شيء واضح »٬-;—;– كما أن القطيعة مع المعرفة التامة والأمينة لا تعني
« كل شيء غامض» . فالتعميم يؤدي في بعض الأحيان إلى « اللا معلومة » حيث يسرب الإنسان داخل نموذج علموي سيماته مبادئ أولية بسيطة و يقودنا وبسهولة إلى تمويه « بساطة مصطنعة» على «تركيب / تنوع» لا محدود لعالم حقيقي.
فبعد الثورة الكوبرنيكية التي اقتلعت الأرض وما عليها من بشر من مركز العالم , انتزعت الثورة الداروينية النوع البشري من حلم الخلود الذي كان يعيشه . بدت الأنواع شأنها شأن الأفراد كائنات عابرة في مجرى التا ريخ , فهي أيضا تولد و تحيا و تموت . و هكذا انهارت خرافة الطبيعة الخالدة في الوقت نفسه الذي انهارت فيه النظم الفلسفية التي كانت تشكل نظيرها الثقافي , و لاسيما المفهوم الأرسطي لعالم قائم على نظام مستقر لا يتبدل و ليس مؤدى هذا مطلقا أن الطبيبعة غرقت في خضم من الفوضى , بل معناه ان نظاما جديدا فرض نفسه على العقل , نظاما ينهض على توازنات في حركة دائبة , توضع موضع التساؤل باستمرار و تجدها على الدوام آليات تنظيمية . و قصارى القول أن نهاية ذلك القرن التاسع عشر شهدت تحول الحياة إلى ” علاقات جدلية ” شأن المذاهب الفلسفية التي حاولت التعبير عنها في واقعها الراهن , و لاسيما المذهب الماركسي .
كل شيء تغير في القرن العشرين يقول المفكر الفرنسي البير جاكار . فنظرتنا للمادة وتركيبتها الذرية تغيرت ونظرتنا للزمن تغيرت وكذلك نظرتنا للتصور الحراري والحياة والكون والمجرات وآفاق الفضاء وأعماق المحيطات.. ولكن للاسف فان الجمهور العام لا يحس بذلك لان التعليم الوطني لا يركز عليه كثيرا وانما يهتم فقط بالآداب والشعر والفلسفات. هنا يكمن نقص برامج التعليم او قصورها، ينبغي ان نعلم التلاميذ النظرية الذرية فيما يخص تركيبة المادة غير الحية. ينبغي ان نقول لهم بان نواة الذرة ليست اصغر جزء في المادة وانما هناك ما هو اصغر منها ويدور حولها كالبروتون والنيوترون، بل وحتى هذه تنقسم الى دقائق اصغر ايضا تدعى الكواركز.. باختصار ينبغي ان نشرح لهم النظرية الذرية في خطوطها العريضة، كما ينبغي ان نشرح لهم النظرية الخلوية فيما يخص علم البيولوجيا والوراثة لكي يعرفوا تركيبة الانسان بشكل دقيق، ينبغي ان يعلم الناس ان الطب حقق في القرن العشرين قفزات هائلة وأصبح علما دقيقا بالكامل وهذا ما ساعد على التخفيف من آلام البشر ومعالجة اصعب الامراض بفعالية ونجاح. فاليوم وبفضل المجهر الاليكتروني اصبح بامكان الاطباء ان يصوروا الاحشاء الداخلية لأي انسان ويرونها بكل وضوح كما لو انها امامهم! وهذا ما يساعدهم على تشخيص أي مرض ورؤية موقعه بدقة وبالتالي علاجه بأسرع وقت ممكن.. ثم بعد ذلك يشتمون القرن العشرين ويلعنونه!.. صحيح انه حصلت فيه حربان عالميتان ومحرقة اليهود ومحرقة الفلسطينيين الناتجة عنها مباشرة والعديد من الحروب الاستعمارية البشعة وتجربة الفاشية والستالينية ولكن ينبغي ان نرى وجهه الآخر المشرق، فهو ليس كله اسود.
لا يوجد مكان خاص ندرِّس فيه ونعلِّم شرطنا الإنساني يقول المفكر الفرنسي ادغار موران ، أي ما نحن عليه من أحوال، باعتبارنا كائنات إنسانية. وهو موضوع مهمل، ليس فقط من طرف العلوم الاجتماعية والإنسانية والتاريخية، بل حتى من طرف العلوم الدقيقة، لأن جزءًا هامًّا من النشاط الإنساني يندرج ضمن موضوعات هذه العلوم الأخيرة، باعتبارنا حيوانات تنتمي إلى الثدييات، بل وحتى بالنسبة إلى العلوم الفيزيائية والكيميائية. فنحن نعرف اليوم أن الحياة هي تنظيم لعناصر فيزيائية–كيميائية، جزيئات تتكون من ذرات. إن جزءًا من الوضع الإنساني هو واقع فيزيائي–كيميائي. ولكن تدريس هذه العلوم مفصولةً بعضها عن بعض يجعلنا لا ندرك هذه الروابط وتشكيلها للإنسان، على الرغم من أن الواقع الفعلي لوجوده يعكس التحام هذه العوامل وانصهارها فيه. فبفضل تطور علم الفلك وآليات الرصد والتتبع، على المستويين الماكروفيزيائي والميكروفيزيائي، نعرف أننا نحمل في جسمنا جزيئات يرجع تاريخها إلى الثواني الأولى من ميلاد الكون. فكياننا المادي يحمل ذرات من الكربون تكونت في قلب نجوم سابقة على شمس منظومتنا؛ وبعد انفجارها (النجوم)، تشتتت هذه الذرات و/أو تجمعت في الكوكب الصغير الذي نسميه اليوم الأرض. كما نعرف اليوم أن العناصر الأولية تراكبت حتى توفرت شروطُ ظهور الحياة. وأقول إننا نحمل في داخلنا الخلايا الحية الأولى التي ظهرت في الثواني الأولى لظهور الحياة على الكوكب الأرضي؛ كما نحمل في داخلنا العالم الحيواني؛ ونحمل في داخلنا، أيضًا، بنية الكائنات الفقارية وكلَّ ما يرتبط بتاريخ الثدييات: فنحن نرضع الأبناء، ونحمل في داخلنا الشواهد على الحياة البدائية.