كانت رئاسة الرئيس الامريكي السابق ترامب فيما يبدو نهاية حقبة في التاريخ الامريكي بدات في سبعينات القرن الماضي مع ريتشارد نيكسون، وليس في فترة ريغان – تاتشر، وفي التاريخ العالمي. خلال هذه الحقبة. التي غطت نصف قرن من الزمن تمكن المحافظون من انجاح ثورة حقيقية وعميقة انهت تراث روزفيلت والكينزية في مرحلة و انهاء وجود الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي لاحقا و تمكنت من السيطرة على العقول وتوجيهها وتغيير عادات الناس على اوسع نطاق، سواء في الولايات المتحدة او في بقية انحاء العالم.
وقد مرت هذه الثورة المحافظة الى السرعة القصوى على نطاق عالمي بعد انطلاق العولمة في تسعينات نفس القرن، بحيث صارت كاسحة ومنفلتة من قدرات الدول التي لم يكن بمقدور اي منها كبح جماحها،لكن هذه الثورة المحافظة سرعان ما وصلت الى مرحلة حرجة بعد توالي الازمات الاقتصادية الحادة ( ازمة تكيلا في المكسيك سنة 1996، ازمة القيم التكنولوجية سنة 2000، ازمة الرهون العقارية سنة 2008…) وتزايد تركز الثروة وتعميق الفوارق الاجتماعية وغيرها و تراجع مستويات معيشة الفئات الوسطى ….، ورغم ذلك اتجه المحافظون الى الدفاع بتجدير ثورثهم عبر مزيد من المحافظة كما عبر عن ذلك تيار المحافظين الجدد الذي سيطر اثناء رئاسة بوش الابن، ثم التيار الفاشي الذي قاد ترامب الى الرئاسة، بعدما تاتى له اكتساب ثقل كبير داخل الحزب الجمهوري وخارجه من خلال مجموعات متعددة منظمة ومسلحة، وهو تيار يختلف عن التيارات المحافظة السابقة بكونه يناهض راس المال المالي الذي تاتت له السيطرة بعد اكتساح النيوليبرالية و غلبة المضاربة المالية في مقابل تضاؤل الاقتصاد الواقعي.
ما يهم من الاشارة السريعة الى مسار انتصار واكتساح الثورة المحافظة هو ان هذه الثورة مثلت مرحلة افول السياسة وضعف الديمقراطية و تراجع القوى الفاعلة في تطويرها من خلال التدافع السياسي والنضال النقابي، بحيث دخلت الاحزاب السياسية والنقابات العمالية مند سبعينات القرن الماضي في مسار تراجعي، وبالاخص منها الاحزاب والنقابات ذات الميول التقدمية واليسارية في العالم اجمع، وذلك بعد ان كانت انتفاضات الطلاب والشباب وايضا الثورة الثقافية الصينية ونهاية حرب فيتنام … قد ولدت فورة عابرة مثلت، كما سجلت ذلك حنة ارندت، نهاية المرحلة السابقة التي تميزت بعنفوان التقدميين و تراجع المحافظين، وكانت التعبيرات الشبابية المتطرفة للجيل الذي سمي ب “بايبي بومرز” والطاعنة في الماضي وفي القيادات والاحزاب والميالة الى ما سمي بالعنف الثوري اكثر التعبيرات ماساوية عن نهاية مرحلة ازدهار اليسار والحركات التحررية والثورات الثقافية الكبرى.، وهذا ما اعرف ان كثيرا من اصدقائي لن يتقبلوه كما لم اتقبله انا ايضا في وقت سابق.
مند سبعينات القرن الماضي سيطر المحافظون سيطرة كاملة، و تاتى لهم ان يعمقوا السيطرة وان يخترقوا تحصينات الاحزاب الديمقراطية الاجتماعية، وان يفرضوا الراي الواحد والموقف الواحد والرؤيا الواحدة للحاضر والمستقبل، بحيث ان الاختلافات الرائجة ليست في النهاية الا تنويعات في اطار معزوفة واحدة وواحدة، وقد تاتى لهم ذلك بسهولة اكبر بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ودخول مختلف احزاب اليسار، وليس الاحزاب الشيوعية وحدها، في ازمة هوية وايديولوجيا وموقف وعرض وتاثير الى ان بلغت ما بلغته، وما نلمسه هنا في المغرب اليوم، لكن هذه الحقبة الطويلة تنتهي اليوم.
وهناك وعي ينتشر على نطاق واسع، بان استمرارها لا يمكن ان ينفتح الا على البربرية كما راينا بعض صورها في هجوم انصار ترامب على معبد الديمقراطية الامريكية، الكونغريس، والفوضى العارمة كما نراها في العالم العربي وانهيار الدول وتفكك الاوطان، لانها تقود الى مزيد من تركيز الثروة والمزيد من الفقر والفوارق الاجتماعية والماسي الانسانية وبالضرورة الى تغلب النزعات التسلطية والميول الفاشية، وغير خاف ان الفاشية هي وليدة الراسمالية في مرحلة ازمة وانها صعدت بصناديق الاقتراع في البداية. هذا الوعي نجد له ترجمة صريحة او محتشمة في مواقف النخب التقدمية، وايضا الوسطية، وفي برامج جديدة تتبلور مند سنوات على اساس ابحاث علمية و اجتهادات فكرية وايضا وايضا في معارك سياسية ميدانية، ولعل الانتخابات الامريكية الاخيرة، الرئاسية والبرلمانية، قد شكلت منعطفا سيكون له ما بعده ، وهذا ما لايمكن استيعابه الا بتجاوز النظر للاشخاص مهما كان حجم حضورهم في المشهد وتركيزه على جملة من الافكار والرؤى الجديدة التي يتم التعبير عنها، ومنها مناهضة تفوق العرق الابيض والعلاقة مع الهجرة والمهاجرين والمناخ…الخ في خطاب تنصيب الرئيس بايدن، فالامر لا يتعلق بخطاب استهلاكي املته لحظة وانما بما نضج وساهم في انضاجه تيار بيرني ساندرز في الساحة السياسية والمجتمع وجعله يدخل اللغة الرسمية للحزب الديمقراطي الامريكي بشكل لارجعة فيه.
ومن المؤكد، وهذا ما لايعيه الكثيرون، ان كورونا قد جاءت كصدمة كبيرة لعالم كان يعتقد انه تجاوز زمن الاوبئة الفتاكة، و من المستحيل ان لا يكون لهذه الصدمة ما بعدها، فهي في التقدير النهائي تطوي صفحة ماض، كانت فيه الهبمنة للمحافظين ولمختلف خدعهم التي استخدموها، وستنفتح بعدها لامحالة صفحة جديدة تكتب بتوازنات سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة وبالاخص بثقافة جديدة، اذ دون ذلك ستفتح ابواب جهنم امام البشرية و سيتغلب التدهور الحضاري. اكيد ان الصين وقوى صاعدة اخرى ستكون لها كلمتها غذا، لانها دخلت مشاركة في اعادة بناء البنية التحتية العالمية التي كانت بريطانيا وفرنسا ثم بعدهما الولايات المتحدة وراء وضعها في صيغتها القديمة، لكن هذه الكلمة ستاتي بعد حين، وبعد تحولات لم تحصل بعد، و لذلك نركز على اهمية الانتباه الى القوة الاعظم في العالم بعيدا عما يقود اليه العداء البدائي من خرافات واحجية تصلح لتنويم الاطفال وليس لصناعة وتامين مستقبلهم.
( يتبع )
محمد نجيب كومينة