تشويه المعمار سلطة مطلقة للجهل بالجمال . كم سيكلف هدم هيكل محطة القطار بالرباط ؟ و سنظل نؤمن بأن الدولة هي التي تصنع رجال الدولة.
ادريس الأندلسي
بدأت أشغال بناية محطة قطار فايق السرعة قبل سنين في وسط المدينة الرباط. شاهد القاصي و الداني كميات كبيرة من الحديد تطوق مشهدا جميلا و تساءل عن سبب بلاء معماري يهدد تاريخ العاصمة. في أول الأمر انتصر التقنيون و قرروا بناء سجن تخيلوا أنه ابتكار معماري. أرادوا ” دون إرادة ” إخفاء جمال تاريخي أصله موحدي و استمراره موريسكي و وجوده مغربي حتى النخاع. و للمبصر حق في الكلام عن التاريخ أكثر من غيره. لأن الغيرة على التاريخ لها أصل و فروع ، و هي ذلك التحصين الثقافي للفعل الحضاري. و شكرا لكل الغيورين على ذاكرة المدن المغربية المشكلة للرأسمال التاريخي الذي لن يقبل أي تقييم له بلغة البورصات ذات لغة المسماة بالقيمة النقدية. و هكذا سيطر أناس كفروا، و العياذ بالله ، بكل القيم الإنسانية و الحضارية التي ربطت المقدس بالثقافي و بغيره للحفاظ على الإرث الإنساني . ظل هذا الإرث أكبر من هواجس إنسان ساقه هوس السوق إلى الانسياق وراء القيم السوقية. و ستظل الرباط محصنة ضد تجار الفقر المعماري. و ستظل مراكش و فاس و آسفي و مكناس و الصويرة و وزان و طنجة و تطوان و الشاون عصية على الاميين الذين تمكنوا من مراكز القرار في بلادنا ذات الجذور العريقة. و من هؤلاء المتمكنين تجار مخدرات و جهلة بالثقافة و بالتاريخ و متمكنين بالميزانيات و التحكم في القرار. قررت أن أبتعد قليلا عن علاقة عمالقة بالمدينة. تنكرت برهة لإبن رشد و إبن خلدون و لذلك ” النصراني” فيبير” العالم ” الذي تفلسف من أجل مدينة محاولا اللحاق بأرسطو. و تنكرت لتاريخ بلادي ولخطاب زعماء ما بعد الاستقلال . تذكرت، بحياء، أن النقد البناء، يستوجب بعض الكلام المباح عن خطاب ذكي، يقظ ، سياسي مباح.
راكم المغرب عبر قرون طويلة كنوزا معمارية صنعت شخصية و ذاكرة يحفها الجمال و يشكل لغة تكلم بها جمهور من صناع الجمال. أتذكر بكثير من التبجيل تلك الزيارات المنتظمة التي كان يقوم بها الملك الراحل الباني الحسن الثاني لورش للمسجد الذي يحمل إسمه. كانت له ملاحظات دقيقة و هو يحاور ” المعلمين لكبار” في كافة الاختصاصات من النقش على الخشب إلى إختيار أشكال و ألوان الزليج الفاسي و الخشب المراكشي و فنون ترتيب الرخام و النحاس و الثريات و حتي شكل الزرابي. ثقافة كهذه لا تأتي من فراغ و لكنها تنبع من تاريخ تليد و من معرفة عميقة بالأرض المغربية. حمل وارث سره الملك محمد السادس نفس الهم الجمالي و أمر المسؤولين بتنزيل الجمال عبر التاريخ الجمالي للمدينة المغربية.
تمت إعادة هيكلة لحواضر المغرب بإصرار رغم وجود رغبة كبيرة لدى من يرفضون الجمال المعماري ذو الجذور الثقافية، و يفضلون رسوم الكمبيوتر و الحديد و الزجاج و الخشب العصري و سهولة التعامل مع المجال بشكل سريع و قريب إلى كل ما هو مصطنع. المهندس المعماري هو ذلك الكائن الفنان الذي أطلع خلال دراسته على التاريخ و الجغرافيا و الاثنولوجيا و علم الاجتماع و تقاليد الأسر في مختلف أنحاء الوطن. تابعنا كيف أهتم ملك البلاد بالمتابعة الشخصية لإعادة هيكلة الكثير من المدن العتيقة. لولاه لما نجحت الكثير من المشاريع و على رأسها تلك التي تم تنفيذها في شمال المغرب. يعرف جميع المغاربة أن دار المخزن هي في الأول مخزون ثقافي معماري يتحمل الطقوس و يحمل كل الإرث المعماري المستجيب لعلاقات إجتماعية تعكس نوعية السلطة و الفقه و القضاء و الثقافة بكل أشكالها. قد تتغير العلاقات السلطوية و لكن الجمال المعماري لا يموت بموت أجساد من كانوا يمتلكون السلطة. ” كملات الباهية” ، جملة ذات حمولة تاريخية أصلها علاقة حميمية بالجمال و استمراريتها تتجسد في زيارات بمئات الآلاف لقصر الباهية الذي بناه ” با حماد ” أو من كان يكنى ” بدفة المغرب”. رافقت تجليات سلطته تطور شخصية الملك عبد العزيز إبن الحسن الأول. رحلوا جميعا و ظل جمال الباهية يستقطب زوار مراكش من كل الأجناس. و ظل بيننا، نحن المغاربة، من يصرون على مدح مظاهر الاستلاب العمراني و على محاربة القرميد و الزليج و النقش على الخشب و كل ما هو جميل و قابل للتأقلم مع القرن الواحد و العشرين بكثير من الأناقة و الثقافة وعمق الأصالة.
صادفت مسيرتي المهنية عمل مؤسسات تهتم بتكوين المهندسين المعماريين. حزنت لوضعيتها و لتصنيفها حسب صعوبة ولوجها بالاعتماد على معدلات الباكالوريا العلمية و خصوصا ما يتعلق بالرياضيات و الفيزياء. و تذكرت سنوات السبعينات في ساحة الوطن ” ناسيون ” بباريس حيث كان مقر المدرسة الوطنية للمعمار. حضرت تقديم طلبة لمشاريع تخرجهم. كانت الأسئلة و المناقشة تركز على ارتباط المشروع بالثقافة و التاريخ و الرقص و الاثنوغرتفيا و الأنثروبولوجيا و قليلا ما كان الكلام يمتد إلى هياكل الأسمنت المسلح.
المشكل أيها المختصون أنكم تركتم أو أجبرتم على ترك المجال للأمين أصحاب القرار الإداري و المالي و السياسي ( بالمفهوم الشعبوي) للكلمة. و تحولت جمعيات المحافظة على الثراث و الذاكرة إلى منتدى لمناضلين من أجل حماية تاريخ و ذاكرة و ثقافة دون وسائل و لا تمدد مؤسساتي مسنود من طرف حكومة أو برلمان أو مجالس ترابية.
حتى عاصمة الأنوار و عاصمة المملكة تعيش على إيقاع الاختيارات غير المفهومة. كادت بعض المآثر أن تشوه لولا بعض المثقفين المسكونين بهم التاريخ و الثراث و الدود عن رأسمال لامادي غالي جدا. و هكذا حافظنا عن مقهى حي الاوداية و كثير من زقاق الرباط. و لا زال العمل الواعي بالتاريخ مطلوبا لحماية ذلك الرأسمال. و المثال الكبير الذي يجب أن يدفعنا إلى محاسبة المسؤولين هو ما يقع في محطة القطار الموجودة وسط الرباط. الأمر كبير و مكلف ماليا و ذو ثقل على سمعة تدبيرية ضعيفة و تكاد أن تكيف قانونيا و حتى جنائيا لإن آثارها المالية يتحملها المواطن في نهاية المطاف.
و الآن و قد بدأ تفكيف الهياكل الحديدية التي كلف تركيبها الملايير، يجب أن نتساءل عن التكلفة الحقيقية لمشروع يتعلق بخلق نقلة نوعية في قطاع النقل السككي ببلادنا. لماذا قدم المهندسون المتخصصون في الحديد و الزجاج أكبر مشروع في وسط العاصمة دون أية رؤية ثقافية و معمارية. و تدخلت اليونسكو لتقول لمهندسينا أنكم تجهلون التاريخ و التزامات بلادنا في مجال الحفاظ على الثراث الإنساني المصنف.
هل وصل بنا الأمر أن نوكل أمور تاريخنا المعماري إلى اقلنا فهما للتاريخ و للإعمار المغربي. نعم نخسر كل يوم ملايين الدراهم و من سيدفع الفاتورة. تناسى من حصلوا على الصفقات أن للمغرب تاريخ معماري عريق و جميل. تحاملوا على مظاهر الجمال بكثير من الاحتقار للزليج و الجبس و الأقواس و الأبواب الكبيرة و قرروا أن يتجاهلوا جمال الرباط و فاس و مراكش و مكناس و تارودانت و ركزوا على بنيات حديدية مكلفة غطت على سور المدينة و على الشكل المعماري لمحطة القطار الأصلية. و هنا وجب الإعتراف بالخطيئة الأصلية التي اوصلتنا إلى مسخ ثراتنا المعماري بعد أن تولى ” بعض الاميين ” أمر الجمال الحضري ” و هو أمر يكبرهم بكثير. أمر المعمار ببلادنا يجب أن يبتعد عنه من لهم مجرد تقنيون مختصون ببناء أشكال غريبة عن تاريخ جمال معمارنا. و الدليل غرابة محطة قطار القنيطرة و المحطة الجديدة للقطار الفائق السرعة لطنجة. و تحية لمن كان وراء نحث محطة القطار لمراكش. و كل ” عدم الإحترام ” لمن تخلى عن الثقافة المغربية في تصور الشكل المعماري للمحطة التي خصصت للقطار فائق السرعة في طنجة.
لدينا مواطنون شرفاء ذوي كفاءات تاريخية و علمية و جمالية كونوا جمعيات لحماية الذاكرة المغربية. قليلة هي السلطات التي تنظر إليهم بعين الوعي التاريخي و كونهم مثقفين يحملون هم الحفاظ على هوية و تاريخ و أسلوب حياة في زمن يمتلك فيه القرار العمراني و المالي و التاريخي أناس حملتهم موجة التحزب و صنعتهم لوبيات تدبير المجالات الترابية، فأصبحوا ” نخبة ” تقرر و تقهر و تعري عن ضعف التحكم العاقل في زماننا. نحن الآن نشاهد و نتفرج على تبخيس صرف المال العام في الكثير من مناطق البلاد و على الخصوص في وسط عاصمتنا الرباط. أضاع صناع قرار قبل سنين اموالنا و هاهم اليوم يعيدون مهزلة إزالة آثار قرار وضع هياكل حديدية من فوق محطة القطار. و كل هذا له تكلفة بالملايير من أموال الوطن. أتمنى أن يكون هذا ” حدا للباس” و أن يستشار العالم المختص بالمعمار و العمران و التاريخ قبل أن يتخذ القرار من طرف مهندس الأسمنت المسلح القوي و المسنود و الجاهل.
و من غريب الصدف أن عامل مدينة اسفي و رئيس مجلس مدينتها التزما ، خلال لقاءهما، بوفد برتغالي و مغربي ضم مؤرخين و مهووسين بالثقافة، على العمل مع المجتمع المدني المسالم لإعادة التاريخ إلى مكانه الحقيقي في المدينة. و في نفس اليوم، اهتزت الأرض و هي تساءل الجميع عن مسار التأسيس الحقيقي للمعمار. و سيظل سؤال البناء كبيرا يحتاج إلى الكبار من المغاربة و ليس إلى صغارهم. مشكلتنا اليوم هو أن السياسة تصنع الصغار. و سنظل مؤمنين بأن الدولة الكبيرة هي التي تصنع رجال الدولة.