آخر الأخبار

تعجيم ضاد و ميم -2 –

سعـد سـرحـان

كنّا نتمنّى أن يطلع علينا أحد المسؤولين ويقدّم للمغاربة حصيلة التعريب، فقد مرّ عليه حتى الآن أكثر من أربعين عامًا. ففي السّنة الماضيّة حصل على الباكالوريا المعرّبة الفوج الثلاثون، وبذلك فطلائع المعرّبين هم في نهاية عقدهم الخامس، وعليه فكلّ من هو دون الخمسين فهو معرّب، وهؤلاء هم الكتلة النشطة في البلاد، وكل من فوقها فهو أمّي أو على أبواب التقاعد.كنّا نتمنّى أن يطلع علينا أحدٌ ما ويطلعنا على حصيلةٍ ما، لنعرف أسباب التّراجع عن التّعريب بعد كل هذه العقود، وبعد أن استتبَّتْ له معظم ساكنة البلد.فما يعرفه الجميع هو أن عدد الأقسام التحضيرية تضاعف لأكثر من عشر مرات، وكليّات الطّب والصيدلة باتت في معظم الحواضر، والمدرسة الوطنية للعلوم التطبيقية لها فروع في أغلب المدن، والمدرسة الوطنية للاقتصاد والتسيير بدورها تغطّي معظم ربوع المملكة، ومدارس المهندسين التاريخية تتوسع وتتفرع لتستوعب أعداد المتفوّقين، إضافة إلى المدارس الفندقيّة وشعب الاقتصاد والحقوق باللغة الفرنسية، وكذا المدارس والمعاهد العليا الفرنسية التي بات تلامذتنا يَلِجونها بأعداد متزايدة… وكل طلبة هذه المعاهد والمدارس، على اختلاف تخصّصاتها، يتابعون تكوينهم العالي بالفرنسية ويتفوّقون في ذلك، حتى أن فرنسا نفسها تتهافت عليهم وتستقطبهم لكفاءتهم التي تفوق كفاءة الكثير من الفرنسيين الذين لم يدرسوا بالفرنسية فقط، بل عاشوا بها طيلة حياتهم.منذ انطلاق التّعريب، وما من بكالوريا إلّا وتطلع علينا وسائل الإعلام بالمعدّلات الخرافيّة التي يحصل عليها نجباء المدرسة العمومية… وفقط قبل الشروع في كتابة هذه الورقة، تُوِّج الفريق المغربي بالرتبة الأولى على صعيد إفريقيا في أولمبياد الرياضيات.إزاء كلّ هذا، ما هي جريرة اللغة؟ بل حتى كلمة احتضار التي بدرت منّي في مستهّل هذه الورقة، ما كان لي أن أستعملها لولا النّزيف الحادّ الذي ألمّ مؤخّرًا بالقطاع، نزيف في الرّجال، في الزمن، وفي الأموال.أمّا التخبّط، فله من التجلّيّات ما يُغني عن أيّة إشارة. ومع ذلك سوف أذكّر لعلّ الذكرى تنفع.فكيف يستقيم التّسرع في اتخاذ القرارات مع البطء في تنفيذها؟
كيف يستقيم التّذمر من الاكتظاظ مع التفريط في الوعاء العقاري للوزارة؟كيف تستقيم الدعوة لتعريب الإدارة مع الدعوة لفَرنَسة التعليم؟كيف يستقيم الترويج للمسالك الدّولية مع فرض فرنسا لامتحان اللغة على الحاصلين على باكالوريا (اختيار فرنسية) إن هم أرادوا الدراسة في جامعاتها ومعاهدها؟كيف يستقيم الأسف على هجرة الأدمغة إلى هناك مع عدمه على تهميشها أو تهشيمها هنا؟ كيف يستقيم التشجيع على المغادرة الطوعية والتقاعد المبكّر، فيخسر القطاع بذلك كتلة مهمّة من مزدوجي اللغة، مع التعاقد الذي لم تضمن به الوزارة حتى وجود الأساتذة في الأقسام؟كيف يستقيم التّباكي على تراجع مستوى التلاميذ طيلة السنة مع التّباهي في نهايتها بنِسَب النجاح في الباكالوريا وعدد الميزات المحصّل عليها؟كيف يستقيم تأخير تشكيل حكومة لعدّة شهور مع استعجال توافق تأخّر لأيام فقط؟
تتعدّدُ معاني التربيّة ومراميها بتعدّدِ القائمين عليها:
فهناك من يُربّي الدّواجن، وهناك من يُربّي النّحل وهناك من يُربّي الّلحية وهناك من يُربّي الخميرة وهناك من يُربّي الخيول وهناك من يُربّي الأنعام…ومع أنّ تربية الإنسان هي الأرقى، فإنّ بعضَ المُربّين يَحْذون حذو النماذج السيئة من غيرهم. فكما قد يُطعم هذا نحلَه سكّرًا فقط فينتج عسلًا خاليّا من نفع العسل، ويُطعم ذاك قطيعَه علفًا فاسدًا فيتكشّف صنيعُه عن جِيَفٍ حقيقيّة بعد الذبح، فإنّ المُسوخ التي تسعى في المجتمع الآن، إنّما هي فحسب نتيجة لهذا الأسلوب الخبيث في التعليف.ليس التعليم مهنة فحسب، بل هو فنٌّ من أرقى الفنون. فإذا كان النحّات ينحت تمثالًا خالدًا من صوّانٍ أو مرمر… فإنّ المعلّمَ ينحت تماثيل من لحمٍ ودمٍ وأحلام… وقد تخلد أكثر من أيّ صَلْدٍ. لذلك، وجب وضع الأزاميل في نفس مرتبة الأنامل.أمّا التربية فأعمق من التعليم، فهي تضيف فلسفتَها إلى فنِّه، فإذا المهنة من أنبل المهن. أقول أعمقَ، وأقصدُ أخطرَ: فعلى نفس طاولة الدّرس قد يجلس معًا، من سيصبح مهندسًا للقناطر ومن سيصبح طيّارًا ويقصف القناطر بلا هوادة.يتمتّعُ النّظام التّعليميّ في فنلندا ببريق يُحسد عليه حتى من طرف القوى التعليمية الكبرى. لذلك فهو يُغري بالاستيراد، تمامًا كما تفعل شجرة الأركَان عندنا بسبب فوائدها الصّحيّة والتجميليّة…النظام التعليمي يتخلّق وينمو في تربة المجتمع، ويتغذّى من عمقه الثقافي والتاريخي، ويرتوي من مياهه الأرضيّة والسماويّة… لذلك، لا يمكن تصديره ولا استيراده. وحتى استنباته لا يصلح إلَّا في الجوار حيث الأرض امتداد للأرض والسماء امتداد لنفسها…يمكن لفنلندا الشقيقة أن تستورد من المغرب أشجارَ الأركَان، وأن تأخذ معها كهديّة بضعةَ أطنانٍ من التراب… لكنّها لن تستطيع أبدًا أن تستورد مناخَ الجنوب المغربي.المسافة بين فنلندا والمغرب لا تُحسب بالأميال فقط، وإنما بالماء أيضًا. فهناك، في فنلندا، آلاف من البحيرات، وهنا، ما مرّ عام والمغرب ليس فيه صلاة الاستسقاء.وكما يعلم كلّ عاقلْ، فمجزوءة الماء لا تقدّر بِمُعاملْ.لم يعش رامبو وابنُ زنباع في نفس التاريخ ولا في نفس الجغرافيا. ومع ذلك، فهما ليسا فقط زميليْن في المدرسة، بل إنّهما يدرسان في نفس المستوى بالمغرب، أقصد يُدَرَّسانِ فيه طبعًا.كانت مفاجأتي سارّة حقًّا، قبل سنوات، حين ضبطت “القارب السّكران” لآرثور رامبو وهو يترنّح على صفحة من المقرّر الدراسيّ لأحد المستويات بالثانوي. وأيّا يكن مَنْ أدْرَجه ضمن المقرّر ذاك، فهو يستحقّ شكرًا شاسعًا على حسن الاختيار وعجيب المصادفة. ذلك أنّ رامبو كتب معظم شعره الخالد، حين كان شخصًا في نفس سن التلاميذ الذين يَدْرُسونه نصًّا.ولأن تلاميذ هذا المستوى يكونون في مستهلّ ربيع العمر، فقد أكرمتهم الحياة بمن أسعفته فصاحته ودلّته حصافته، فزيّن مقرّرهم للغة العربية بقصيدة عن الربيع لابن زنباع.ولنا أن نتخيّل مصادفةً أغرب: أن يتناول التلاميذ رامبو قبل الاستراحة وابن زنباع بعدها، مثلما لنا أن نتصوّر بأيّ انطباع سيخرج هؤلاء اليافعون عن الأدبين وعن اللغتين.لقد كنتُ في سنّ هؤلاء، وأعرف متطلّباتهم جيّدًا. لذلك، لو كان بيدي، لما تركتهم يغادرون “القارب السّكران” قبل أن أمدّهم بكأسٍ لا تنضب ولا تتهشّم، وبقطعة حشيش رفيعة مدسوسة بين رغيفين ناصعين. فصاحب المزاج الكبير هو عمّي محمد (زوج خالتي سَنِيّة). ومع أنّه لم يعش سعيدًا، فقد يسُرّه في قبره أن يشربوا في “كأسك يا وطن” ويتناولوا ممّا خلّف من “خبز وحشيش وقمر”… فلا يغادرون أسوار المدرسة إلّا وهم في وعي يُحَصِّنهم ضد تجّار المِزاج المغشوش