سـعـد سـرحـان
لقد طرق أسلافنا أبوابًا غريبةً، وألّفوا في مواضيع أغرب، أوْلَوْها بالغَ الاهتمام بأن اقتطعوا لها من أعمارهم جُلَّها، وسخّروا لها من أنفسهم جَليلَها، ونفخوا فيها من أعماقهم، فإذا هي بيننا، حتى الآن، حاملة لقسمات أرواحهم.بعض تلك الأعمال لا يحتاج إلى تَحْيِين، فقد تمَّ له ذلك بأساليب ووسائط لم تكن في زمن أيّ من الأسلاف.فما حاجتنا الآن مثلًا إلى تحيين “أخبار الحمقى والمغفلين”، وهي تصلنا أوّلًا بأوّل، وبالصوت والصورة والتعاليق، حتى شاشاتنا الشخصية؟ ما حاجتنا إلى ذلك، والأخبار تلكَ تستعصي على أيّ لغة وتجِلُّ عن أيّ كتاب؟ ولو قُيِّض لأحد الأسلاف أن يشاهد ما نشاهد منها، ويعرف عن أبطالها ما نعرف، لصرخ فينا: أليس بينكم عاقل؟ وما حاجتنا إلى تحيين “طبائع الاستبداد”، بعد أن طبَّعْنا معه، وبات حاجة نفسية لمعظمنا، حتى أنّ منّا من يستبدّ بنفسه إذا لم يستبدّ به إحساس أو أحد؟ ولو بعث فينا عبد الرحمن الكواكبي، وقد مرّ فقط قرن ونيّف على صدور كتابه، لَمَا أخذته الرّحمة بنا نحن معشر البشر فحسب، بل بحال كوكبنا أيضًا لِما يتعرّض له من استبداد واستعباد.وما حاجتنا، ليس أخيرًا، إلى تحيين كتابٍ عن الحيوان، وقد صارت له قنوات باسمه تبث على مدار الساعة أدقّ تفاصيل حياته؟ فعليها شاهدنا كيف تحيض العَيْثومُ وكيف تبيض الزِّبَعْرى، وكيف تَكِرُّ أمُّ فارسٍ وكيف تَفِرُّ أمُّ عامرٍ، وكيف يقضي اليَحْمُور يومه في أعالي الجبال وكيف يقضي الحوت حاجته في أعماق البحار، كما عرفنا منها عن يقظة الدُّبِّ وسُبات الضَّبِّ، وعن قفز السحالي وكُمون السعالي، وحفظنا عن ظهر قلب فصولَ المخلب والنّابِ في شريعة الغابِ… وهي القنوات التي لو شاهدها الجاحظ لطفرت عيناه من محجريهما.ومنها ما يحتاج فعلًا إلى تحيين، بعد أن جدَّت في أمرها أمور، وبعد أن اتسعت الرؤية والعبارة معًا.فكتاب ابن المرزبان، مثلًا، عن فضل الكلاب، تجاوزه الموضوع بكثير، ذلك أنّ العالم يعجّ بسلالات منها لم يسمع بها الأقدمون. فالكلاب البوليسية وكلاب الحراسة، وكلاب الصيد الأفغانية وكلاب الرعي الألمانية، وكلاب أتيكا اليابانية وكلاب الهاسكي السيبيرية، وكلاب البيتبول والكانيش والدوبرمان والدلماسي والإسكيمو والبولدوغ والتشاوتشاو وكثير غيرها، لم تكن مِمَّا ينبح في المضارب ويُستنبح في الصحاري، ويقعي عند الأَطْناب ويُلَقّم حجرًا كلّما عوى.”لم يكن السّلف الصالحْ يعرف عن كلّ نابحْ”، ففي تلك العهود لم يكنِ العرب قد ارتادوا الآفاق كما الآن، فعرفوا عنها ما نعرف. ولم تكن الحياة قد أناطت بالكلاب ما تنيطه بها حاليًّا من تعقُّب المجرمين وضبط الممنوعات وجرّ الزّلّاجات في الجبالْ، وغير ذلك من الأفضالْ التي لا تخطر على بالْ، بالِ ابن المرزبان أو حتى بال المعري.فقد نصدّق أنّ شيخ المعرّة كان يحيط بلغة الضّاد إحاطةً كاملة كما يتردّد، لكنّنا لا نصدّق أنّ لغة الضاد نفسها كانت تحيط بأسماء كلاب تنبح بعيدًا عن فضائها بآلاف الأميال. لذلك، وجب تحيين فضل الكلاب والتّبرّي بأثر رجعي من معرّة المعرّي. كتاب آخر أرى أنّه في أمسّ الحاجة إلى التّحيين، هو كتاب البخلاء. ففي مُدَّة الجاحظ، كان للحياة وجهان بارزان فقط، هما المأكل والملبس، وعلى نَوْلهما نسج جدّنا الفذ كتابه الخالد. أمّا الآن، فقد أصبحت الحياة تُعاش بأوجه غير مسبوقة، وكل وجه منها يتصرّف حسب قسمات الكرم أو البخل فيه. هكذا أصبح بيننا، فضلًا عن بخلاء العناصر الأربعة: الترابِ والماءِ والنارِ والهواءِ، بخلاءُ الاتصالات والمواصلات، وبخلاء المطاعم والمقاهي والحانات، وبخلاء الغاز، وبخلاء الكهرباء، وبخلاء الدواء…وما من فاتورة إلّا ولها بخلاؤها.كتبٌ كثيرة في حاجة إلى تحيين، خصوصًا وأنّ الأبواب التي طرق إليها الأسلاف تمَّ تحيينها على أكمل وجه، وصارت بأجراس وهواتف داخلية وكاميرات ومصاعد..