يعود الفضل لهذا القرار إلى الأديب الإسباني خوان غويتيصولو الذي يقر ب” أنه ولد جامع الفنا ” عبارة كانت تعتبر سبة بمراكش،يقول خوان :” بإمكان قرار إداري أن يقضي على ساحة جامع الفنا، لكن لا يمكن لقرار إداري أن يصنع الساحة ” خلال رده على أحد المسؤولين الإسبان عندما طلب منه إعداد مشروع لإنشاء ساحة تشبه ساحة جامع الفنا بإحدى البلديات الإسبانية ( فالو نس )،ما الذي جعل الرجل يجلس هناك على كرسي مفروش ببعض الجرائد بمقهى فرنسا بعد أن تحولت المقهى المفضلة لديه ( ماطيش ) إلى متاجر،يحتسي خوان كوبا من الشاي ويجالس كهولا مراكشيين كما تدل سحناتهم وطاقياتهم الموشومة بأصالة أبناء البلد،ينصت بإمعان ويراقب باهتمام بالغ كل ما يجري بالساحة ويشاركهم جلستهم المسائية، إنه لا يحب اللقاءات الصحفية، يقول بعربية متلعثمة :” أنا لا أجيد الكلام إنني أكتب و لا أعرف غير الكتابة “.
حقيقة أن الصدفة من قادت الرجل إلى مراكش بعد أن كان قد استقر بمدينة طنجة سنة 1976 لكنه فوجئ بالناس هناك يتحدثون الإسبانية،وهو الذي كان يرغب في تعلم اللغة العربية، ليقرر بعد ذلك وفي نفس السنة الاستقرار بمدينة مراكش حتى يتمكن من تحقيق ما جاء من أجله.
تعلق خوان بالساحة وتعرف على أحد روادها وقتئذ وهو ” الصاروخ ” الذي اشتهر بنقده اللاذع وسخريته الداعرة التي كانت تمتع الجمهور أكثر مما تستفزه.أصبح الصاروخ معلم الكاتب،ورفيقه الذي يلازمه اينما ذهب،قربه من المجتمع المراكشي وفك الكثيثر منرموز الساحة التي لم يكن غويتيصولو ليدركها،أو كان سيكلفه ذلك الكثير من الوقت لو لم يلتق بمعلمه الصاروخ بعد ذلك أصدر روايته الشهيرة ” المقبرة ” سنة 1980 التي خص الفصل الأخير منها للساحة عنونه ب ” قراءة لفضاء جامع الفنا ” وهو الجزء الذي دون فيه بأسلوب شيق انطباعاته عن الساحة، عن هذه الرواية يقول غويتيصولو إنه لم يستسغ التجمة العربيةلأنها لم تستوف شاعرية النص، الشيء الذي أعطى نصا جافا بدون روح.
بحي القنارية في أحد الرياض يقيم خوان وفيا للساحة التي لا تبعد عن سكناه إلا ببضعة أمتار وقد كتب عنها يقول :” لكن جامع الفنا تقاوم الهجمات الموحدة من طرف الزمن،وهذه الحداثة الخليعة البليدةلم تنقرض الحلقات،بل برزت مواهب جديدة، والجمهمور المتعطش دوما للحكايات يحتشد حول المداحين والفنانين،بينما يستطيع المكان بفضل حيويته الخارقة وقدرته الاستيعابية أن يجمع الشتات وأن يلغي مؤقتا كل الفوارق الطبقية”.
والواقع أنه لا أحد يجهل الدور الذي لعبه هذا الكاتب بمعية مثقفين ومهتمين آخرين، في تصنيف المغرب ضمن أربع دول تتسم بمميزات مشابهة،الصين، الهند واليابان كلها تتوفر على رصيد غني من التراث الشفوي، بفضل كتابات غويتيصولو عن جامع الفنا دخل المغرب سجل التراث الشفاهي واللامادي للإنسانية خاصة مقالته :” جامع الفنا تراث شفوي للإنسانية “التي نشرها بالأسبوعية الغرنسية” لوموند ديبلوماتيك “وهي المقالة التي اطلع عليها المدير العام لليونسكو،حيث دعا إلى إنشاء لجنة جمعت مختلف المثقفين والمتتبعين لشؤون الثقافة والتراث من دول عديدة،عقدت الكثير من الندوات وعملت منذ 1997 قبل أن يعترف بالساحة جامع الفنا كتراث شفوي و لا مادي للإنسانية في 18 ماي 2001 لكن الاعتراف الذي أعاد للساحة اعتبارها ومدها الثقافي والإشعاعي ، جعل المهتمين بشؤونها، بل حتى بعض مقدمي الفرجة يدركون الخطر الحقيقي الذي يحدق بمستقبلها، ويدعون بذلك إلى تكثيف الجهود من أجل إنقاذ الساحة.
يقول غويتصولو: … أما صورة ذلك البليد الذي يتبادل القبل مع هاتفه النقال فرغم بذاءتها، لا تشوه شفافية هذا الفضاء المثالي و لاتبخسه،تتوهج الكلمات وتتألق وتمد في عمر هذا الملكوت الخارق، لكن الخطر المحدق بالساحة يقلقني أحيانا، فيتكوم سؤالا على شفتي : إلى متى ؟؟ ”
لم يقتصر دور الكاتب الإسباني خوان على رد الاعتبار للساحة عبر الاعتراف بكونها تراثا شفاهيا للإنسانية ممن طرف اليونسكو بل عمل على تغيير بعض العبارات التي كانت تستعمل في معان قدحية كعبارة ولد جامع الفنا التي كان ينعت بها الخارج عن سياق الأدب، حيث كان يقذف الآباء بهذه العبارة في وجوه أبنائهم كلما اقترفوا عملا مشينا أو حين يرغب شخص في أن ينال من آخر يخاطبه :” آ ولد جامع الفنا ” ليأتي خوان ويطلق صرخته : نعم أنا ولد جامع الفنا “وهو يقصد معنى آخر غير المتداول،أي وليد هذا الفضاء الذي يحمل من المعاني الثقافية والتراثية ما يهذب الذوق وينمي المعارف “.
والحقيقة أن تصنيف جامع الفنا كتراث شفوي للإنسانية جاء نتيجة مسلسل من طويل كانت بدايته منذ اتفاقية 1972 والتي فسحت المجال لوضع لائحة تحمل كل المعالم الثقافية والتراثية ذات القيمة العالمية.بعد ذلك عرفت الفكرة توسعا تدريجيا على امتداد أكثر من ربع قرن إلى أن تم الاعتراف بإجماع أربعة وسبعين وزيرا للثقافة إضافة إلى ستة ثلاثين من ممثلي الدول،بضرورة استعجال القيام بإعداد مشروع اتفاقية تمت دراسته على الصعيد الدولي بين الحكومات حتى تقرر بمقر اليونسكو بباريس الإعلان عن إدراج ساحة جامع الفنا ضمن قائمة الدول التي تحمل المواقع المصنفة تراثا شفويا لا ماديا للإنسانية.