جمال مراكش اليوم، كذبة جميلة
“لا مسؤولية و لا محاسبة”
إدريس الأندلسي
كانت مراكش عاصمة لإمبراطوريتين هما المرابطية و الموحدية، و تم بناؤها بفكر خلاق شمل مواقع التأسيس الحضري و تلتها التجهيزات المائية و الفلاحية و الدينية كجامع الكتبية و القصور و الأبراج. و أستمر التوسع العمراني موازاة مع ازدهار العلوم و الآداب و الفنون. و قد كان لنقل العاصمة من مراكش إلى فاس أثر كبير على إيقاع تطور المدينة . و تعرضت عاصمة الإمبراطورية إلى تدمير و خراب و نهب في عهد بني مرين و بني وطاس. و قد شهد على ذلك إبن الخطيب و إبن بطوطة كما جاء في بحوث المؤرخين . و أستمر التدمير حتى طال أكبر قصورها و هو قصر البديع على يد السلطان مولاي إسماعيل حسب ما ورد في كتب التاريخ و الأخبار. ويشير الباحث في التاريخ أن السعديين ” اعادوا إلى مراكش بهاءها عبر تشييد وترميم الكثير من الأحياء و المدارس. . و سجل وصول العلويين إلى الحكم توسع المدينة شمالا ليشمل باب تاغزوت حسب أبحاث المساهمين في كتاب حومات و دروب مدينة مراكش الذي أصدرته ” مؤسسة آفاق “.
نظمت الأسواق في قلب و محيط المدينة، حجت القوافل إليها و وجدت الفنادق لتأويها . ازدهرت مهن البناء و النجارة و النقش على الجبس و الخشب و صناعة الزليج. تشكلت الساكنة، عبر قرون، من امازيغ و عرب و اندلسيين و قبائل من الصحراء و بضع عشرات من أسر قدمت من أوروبا. تكونت تجمعات سكانية سميت بالحومات من جنوبها إلى شمالها، و تم تكثيف الاعمار بكل مكوناته من البيوت إلى الخطارات و الأبواب و الأسوار و المساجد و الفنادق. و ظل الشكل المعماري للمنازل يعكس جذور الساكنة و تطور علاقاتها مع باقي مكونات نسيجها البشري. سور مراكش و قصورها و رياضاتها و جنانها و مساجدها و زواياها و مدارسها شكلت حاملات لشخصيتها و تنوع التعبيرات الثقافية بها. ظلت جبال الاطلس تبدع في ألوان جمال مراكش خلال كل فصول السنة. و ظل التنوع الثقافي يكبر و يزيد عددا إلى أن أصبحت هذه المدينة ذات هوية خاصة . لا يمكن نفي صفة الجمال على مراكش الأمس. و تشهد الآثار و ما تبقى من مظاهر ثقافية و معمارية و سلوكية و فنية و إجتماعية في المجال الفكري و الملموس عبر الوجود و التأثير في الواقع اليومي. و اليوم يمكن القول ” كانت مراكش جميلة “. توافقت رؤى تقنوقراط و وصوليين غير مثقفين و سياسيين شبه مسؤولين ، و تراجع رجال و نساء ذوي وعي بالتاريخ عن مواجهة موجة عاتية لا تبقي و لا تذر. عاث الكثير ، ممن تولوا أمر هذه المدينة و العاصمة الإمبراطورية، فسادا بجهل و أحيانا، و ربما بحسن نية مقرونة بجهل أكبر بقيم العمران و التدبير الإقتصادي. و يعرف الكثير من أهل مراكش من تولى أمرها و تحكم في القرار العمراني و الثقافي و التدبيري لمدة عقود من الزمن. حكم هذه المدينة، في زمن الرداءة، تقني من درجة دنيا ، و شبه أمي، كان جلهم ذو حضور مهاب، و أغلبهم منتم إلى جسم التعليم الإعدادي أو الثانوي ، و غيرهم ممن لا زال حبل المحاكم يطوق حركاتهم بملفات ثقيلة.
أصبحت مراكش، بفعل هؤلاء، مدينة غريبة و ثقيلة على من عرفوا بساطة جمالها و عنفوان صناعتها و إبداع فنانيها و شعلة شبابها المناضل و مثقفيها في مجالات الإبداع المسرحي و الغنائي و التشكيلي. تسلل الانتهازيون إلى القرار و هم في ” قرار” الجهل بعلوم التدبير الإداري و الإقتصادي و المجالي. و لا يمكن أن ننتظر حلولا لمشاكل مراكش في ظل واقع بئيس يتحكم فيه أناس فشلوا في كل شيء، إلا في الحصول على أصوات في انتخابات خضعت لثقافة شبكات تتقن صناعة الوعود و القدرة على تبرير الفشل.
أدعو كل من يهمه جمال مراكش أن يمشي في دروبها و ازقتها المؤدية إلى ساحة جامع الفنا. كانت المدينة القديمة و خصوصا الدروب المتفرعة عن مسجد و جامعة بن يوسف تشكل سلسلة مهنية متخصصة. حين تبدأ الرحلة من ” الباروديين ” ،تقطع سوق صناع الجلد، ثم سوق البلغة و الصفارين و صناعة الشكارة قبل أن تصل إلى سوق النحاس و محلات صباغة الصوف. و تستمر في المشي مرورا بحرفيي صياغة الفضة و المختصين في إبداع أواني الطبخ وأدوات الأكل الخشبية. ثم تدخل إلى الرحبة حيث يتجمع صناع الزرابي و بائعي التوابل و صناع غطاء الرأس من ” الطواقي و ترزات “. و يبقى سوق السماريين ذلك الممر الرئيسي للزائر و الذي تتفرع عنه أسواق الملابس التقليدية الجاهزة ذات الطابع البدوي و سوق الزيوت و سوق الطيور و سوق الفواكه الجافة و غيرها. ثم تصل إلى ساحة جامع الفنا التي كانت مسرحا كبيرا في الهواء الطلق.
تحولت هذه الساحة من ساحة لصناعة الفرجة و الحفاظ على الثراث اللامادي إلى ساحة للأكل وانتفاخ البطون دون تغذية العقول. تم ترحيل الكتبيين وراء الأسوار ، و أصبحت كل الازقة المحاذية أو المؤدية إلى جامع الفنا تبيع نفس السلع و على رأسها الأكل سريع التحضير. و لم يسلم من هذه الموجة سوى طباخي الشواء في مكان ضيق بالقصابين. تطورت المنازل القديمة إلى رياضات و تحولت الفنادق القديمة إلى مراكز لصناعة تقليدية جديدة يتدخل في تصميمها أجنبي من فرنسا لا يهمه سوى شكلها و سعرها. صرفت ملايير لإعادة تأهيل مدينة مراكش. صحيح أن كثيرا من أجزاء هذه المدينة تم إصلاحها، لكن روح المدينة غابت و رفضت شكل الأنشطة الإقتصادية التي استولت على المكان. وأصبحت هذه المدينة، بفعل هذه الأنشطة، غابة للدراجات النارية المسيئة للبيئة بفعل انبعاثات البنزين و انحباسه في مجالات ضيقة. وأصبحت كل فسحة بين الازقة خطرا على جسد المشاة جراء تهور أصحاب هذه الدراجات. و يفتح متحف في المبنى القديم لبنك المغرب ليقدم شيئا غريبا عن ثرات كان حيا إلى غاية أمس قريب، فأخذ سبيله إلى الانقراض. ساحة جامع الفنا لم تعد مجالا للتراث الشفوي. كانت و لم تصبح سوى مطعما كبيرا لمن يحب التذوق البسيط لأكلات لا تعكس مطبخا مراكشيا حقيقيا . غاب الجمال عن المدينة و زاد الازدحام ثقافيا و مروريا و سياسيا.
مراكش اليوم و التي توجد بها أفخر الفنادق و الإقامات الفاخرة جدا، و التي تتكلم عن علو ترتيبها السياحي، لا توجد في قلب مراكش ، و لكن في نواحيها بعيدا عن الأسوار و الأسواق و الأحياء. زوار مراكش الكبار لا يعرفون ثقافتها و عمق تقاليدها التي تختزنها الحومات الشعبية القديمة. مراكش اليوم هي مهرجان قفطان تنقله قنوات خارجية، أو مهرجان اضحاك بلغة موليير و ضيوف تنفرج اساريرهم عندما يتم التهكم، بإسم فن هابط، على ثقافة مراكشيين و مغاربة على العموم. و لا زال بعض الوصوليون يضعون بعض صغار سماسرة فرنسيين في مواقع مهندسي المعمار، و خبراء الفنادق و المطاعم. و هكذا يوجد جيش عرمرم من الأجانب يشتغلون خارج القانون و يكسبون مداخيلا بعيدا عن عيون إدارة الضرائب و سلطات ضبط تحركات الأجانب و نشاطاتهم.
و إلى أن تصبح مراكش مدينة تتطور لتزيد في دمج سكانها عبر خطط عمرانية و اقتصادية تحملها نخب تحمل العلم و التجربة و الوعي السياسي، ستزيد مراكش أكثر ابتعادا عن الجمال و عن الثقافة و الإبداع. و لا يمكن أن نتوقع تغيرا في مسار مراكش، و نحن نشاهد مستوى التدبير و الذي تضمه ملفات كبيرة لا زالت في يد القضاء. و في إنتظار فرج قريب، وجب إنتظار تنظيف الممارسة السياسية من سلوك انتهازي إسمه الارتحال الحزبي صبيحة حملة انتخابية. يتنكر منتخب لحزبه و يستضيفه حزب آخر دون سؤال، و تصاحب هذه التنقلات صفقات و تحويلات مالية لا تراها العين المجردة، لكن بالإمكان الوصول إلى تفاصيلها بالتتبع و المحاسبة و ضبط أساليب ربط المسؤولية بالمحاسبة. و بعد كل هذا قد يتم التفاؤل بعودة الجمال. و لا زال الحالمون و العاشقون من أبناء هذه المدينة، و ليس الغرباء في مؤسساتها و دواليبها الإدارية و المؤسساتية، يحاولون التمسك بإبراز مكونات ثقافية لحمايتها من الاندثار. ويشمل هذا المجهود البحث التاريخي و الأدبي و الصوفي مرورا إلى تقاليد تقطير الزهر بطقوسه. و لا زال هذا اجتهاد بعض الأساتذة الباحثين يغني الخزانة بمنوغرافيات و أبحاث عن مكونات حضارة مراكش من حومات و حدائق و مساجد و مدارس و علماء و قضاة و شعراء و زجالين و موقتين . و هذا المجهود لا يهم ذلك الذي حل بمراكش ولا يحمل شهادة و لا علما و تسلل إلى مركز القرار و أصبح الآمر الناهي في زمن ساد فيه المتسللون دون علم بما للمدينة من شؤون.