آخر الأخبار

حرب على التغطية الصحية في بلادنا. من المستفيد ؟

حرب على التغطية الصحية في بلادنا. من المستفيد ؟
” سلعنة” الصحة و أسعار الأدوية وتكلفة العلاج تفوق بكثير قدرة المواطن .

إدريس الأندلسي

قالت حكومة اخنوش أن تدبير التأمين الإجباري عن المرض سيتم توحيده و سيتم تكليف مؤسسة الضمان الاجتماعي بالسهر على جميع مكوناته. يعرف كل المتتبعين أن هذه المؤسسة لها تاريخ و علاقات قديمة مع الجسم النقابي. و كانت لها ارتباطات، شبه هيكلية، مع وزارة الداخلية في زمن مضى. و تم إتخاذ القرار الذي أعاد للدولة سلطة القرار، و هيبة مجلس الإدارة. و رغم كل ما راج على مستوى محاسبات قضائية، ظلت نقابة الاتحاد المغربي للشغل تلك القوة الفاعلة في تدبير القرار النقابي. سجلت الساحة الإجتماعية فشل مشروع أراد سحق و تدمير التعاضديات و كل مكتسبات الشغيلة التي صنعت مؤسساتها أول مؤسسة للتأمين الإجباري عن المرض و هي الصندوق الوطني لمنظمات الإحتياط الإجتماعي. و يظل الهجوم على أموال التغطية الصحية خطيرا في ظل تعطيل خدمات المستشفيات العمومية. الأمر خطير جدا و يهم الحق في الولوج إلى العلاجات كحق دستوري. و الأمر يزداد خطورة في انهيار فئات إجتماعية أمام تدهور قدرة الفقير، و لو كان اطارا طبيبا في الولوج إلى العلاجات.
يظهر أن هناك تفاهم ،تحت الطاولة، سيفضي إلى القضاء على التغطية الصحية بالقطاع العام. لم أكن أرغب في تنبيه النقابات إلى أن مشروع القانون الذي يوجد بين أيدي البرلمان، و الذي سيمحي الكنوبس من مشهد تدبير التأمين الإجباري عن المرض، يتطلب حضورا نقابيا كبيرا و شفافا. هناك قضايا خطيرة تتطلب الحذر و الحيطة و النقاش المهني لمشروع القانون 23 -54 الذي قد يتم تمريره بسرعة كبيرة و مضرة بحقوق ملايين المؤمنين لدى الصندوق الوطني لمنظمات الإحتياط الإجتماعي. يجب على كل الأحزاب أن لا تستسهل خطورة التعامل التقنوقراطي مع إحدى أهم القضايا الإجتماعية. سوف يتم نقل تدبير تأمين يهم أكثر من 3،6 مليون من موظفي القطاع العام، و ذوي حقوقهم ، و الطلبة ، و ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، إلى نظام قد يحرمهم من مستوى حقوقهم في الولوج إلى العلاجات. و من المعلوم أن نسبة التغطية المعمول بها في الصندوق الذي يدبر القطاع العام محددة بمرسوم. و ستظل خطورة تراجع خدمات هذا الصندوق جد محتملة بعد تمرير مشروع القانون 23-54 . و آنذاك سيزيد حجم المؤمنين غير القادرين على تسبيق مصاريف علاجهم. و ستزداد قوة الضغط على الكثير منهم لكي يصبحوا خارج منظومة العلاجات. و هذا ما تريده منظومة السيطرة التامة لتقنوقراط لا يهمهم سوى الدفاع عن ليبرالية هوجاء.
الأمر خطير جدا و قد يؤدي إلى احتقان إجتماعي كبير. تعتبر الحكومة أن إصلاح التغطية الصحية لن يتطلب سوى عمليات محاسباتية لتوحيد مؤسسات تدبير التأمين الإجباري عن المرض. و يعتبر وزراء هذا الزمن أن القرار ذو طبيعة مالية فقط. و يظل معظمهم، من حاملي خطاب احتقار السياسة ، و اعتبارها غير ذات أهمية، يظنون أن الشأن العام يشبه شأن أسرة تحتاج إلى رب يدبرها كما يشاء. الأمر أكبر من تصور دخلاء على الشأن العام. و حين ستشتعل القضية الإجتماعية سيختفون و يلوذون بمواطن الإفلات من المحاسبة.
تتكلم الحكومة بمنطق تغيير تدبير مؤسساتي بتدبير يستنسخه، دون أن يتم الكلام و القرار عن المشاكل الحقيقية ، و التي تتسبب في اضعاف الكفاءة المالية لمؤسسات تدبير التأمين الإجباري عن المرض. و هذا الاضعاف يمس الأسرة و المواطن و القدرة المالية على مواجهة المرض. يتكلم بعض الوزراء، بكثير من التحفظ و الخجل، عن الفضيحة الكبرى المتعلقة بأسعار الدواء و المستلزمات الطبية ببلادنا. قال وزير الميزانية أن سعر الأدوية في بلادنا يزيد على 300% بالنسبة لكثير من الدول و للتذكير فإن السيد الوزير لقجع يعرف، منذ سنين، كل تفاصيل أسباب تدهور التوازنات المالية للصندوق الوطني لمؤسسات الإحتياط الإجتماعي، و من ضمنها تسقيف المساهمات و ضرورة مراجعة نسب الاشتراكات حسب مستويات الرواتب في القطاع العام. و تصل نسبة إرتفاع أسعار الأدوية، حسب بعض ذوي الاختصاص، إلى 1000%. الفرنسي و الألماني و السويسري و الإسباني و السعودي و الكويتي و غيرهم يستفيدون من أسعار أقل بكثير مما يدفعه المواطن المغربي للصيدلي و لشركات و مخزني الأدوية ببلادنا. الأمر يزداد استفحالا حين يتعلق بالأسعار الحقيقية للعلاجات و التحليلات و كافة أنواع الصور بالأشعة . تعلم الحكومة باليقين التام أن ما يسمي بالأسعار المرجعية الوطنية المجمدة منذ سنين، لا علاقة لها بالأسعار المطبقة في العيادات و المصحات الخاصة و مراكز التحليلات الطبية. و قد يتراوح الفرق بين الأسعار بين الواقع و الأسعار التي يتم على أساسها تعويض المؤمنين، بين 50% و 100%. التوازنات المالية تتدهور بفعل من يتحكم في أسعار الأدوية و الاستشارات الطبية و التحليلات و الأشعة. و لا تحرك الحكومة ساكنا. و حين تنتبه إدارة الضرائب إلى حجم مداخيل بعض المصحات و العيادات و مراكز التحليلات و غيرهم، تنتفض بعض اللوبيات لتبرير التهرب الضريبي و التأكيد على أن القطاع الخاص يشغل الكثير من اليد العاملة. و هذا التبرير هو نفسه الذي يستعمله بعض أرباب صناعات و مستوردي الأدوية في بلادنا. و هنا يجب أن نستخدم لغة الأرقام و تقديم المداخيل الحقيقية لأصحاب مؤسسات القطاع الخاص و معاملتهم كباقي الملزمين ضريبيا.
أكدت وثيقة للصندوق الوطني لمنظمات الإحتياط الإجتماعي و للإدارة العامة للجمارك أن المنافسة لا توجد في مجال عرض الأدوية. و أكدت الإحصائيات الجمركية تجاوز سعر كثير من الأدوية المستوردة لسعر الاستيراد بنسب كبيرة جدا. و أشارت كل التحليلات و الأبحاث إلى أن الأدوية الجنيسة لا تلقى أي تشجيع رغم كونها تخضع لكل مقاييس الجودة. و يمكن التساؤل حول غلاء الأسعار من خلال السبب في الأرباح الكبرى التي تستفيد منها بعض المؤسسات بدون أي سبب. هناك لوبي، له امتدادات كبرى داخل دوائر القرار، يحرم المغاربة من أسعار يستفيد منها المواطن الفرنسي و تحرم الإستفادة منها على المواطن المغربي. وجب البحث عن المستفيد من غلاء الدواء. و لا شك أن لوبي الدواء ينتمي لنفس الاقلية من أسعار اللحوم و البنزين و الغازوال و الغاز. حرام أن يتكلم أصحاب الخطاب عن الدولة الإجتماعية في ظل واقع يخضع لقرار أصحاب مقاولات استيراد الدواء لقهر المواطن و استنزاف قدرته الشرائية.
قالت الحكومة في مخاطبتها للبرلمان أن كل الضمانات أعطيت لكي لا يتم الإضرار بحقوق المؤمنين لدى الصندوق الوطني لمنظمات الإحتياط الإجتماعي. و قدمت هذه الحكومة صفحتين في توجهها للمشرعين معتبرة أن توحيد تدبير التأمين الإجباري عن المرض لا يعني توحيد التعامل الموحد بين القطاعين العام و الخاص. الحكومة التزمت أمام البرلمان أن حقوق العاملين بمؤسسة كنوبس سيستفيدون من حقوقهم المكتسبة، و أن جميع المؤمنين سيستمرون في نظام يضمن لهم عدم ضياع حقوقهم و نسبة تغطية مصاريف علاجهم. و أكدت هذه الحكومة أمام البرلمان على الدور المركزي للتعاضديات في مجال دعم العرض الصحي و مساهمته في تقوية تقديم خدمات تدعم تحسين الخدمات و تقريب التأمين الإجباري عن المرض من ملايين المستفيدين من التعاضد، بما فيها، ذوي الحقوق. و لكن ما جاء في مشروع القانون 23-54 لا يترجم ما جاء في خطاب الحكومة للبرلمان. لا توجد أية إشارة إلى ضمان نسبة تغطية المصاريف الطبية، كما لا توجد أية ضمانات على سبل الحفاظ على التوازنات المالية لنظام التأمين الخاص بالقطاع العام. و قد تأكد أن المدبر الوحيد المقبل للتأمين الإجباري عن المرض سيتعامل مع المؤمنين في إطار عدم خلط أموال الأنظمة المتعددة التي سيديرها. و هنا تصمت الحكومة عن آليات توازن الأنظمة و كيفية تمويل عجزها المالي المراقب.

سوف نشهد انتقالا في منظومة تدمير، عفوا تدبير التأمين الإجباري عن المرض. و سيظل سؤال الحقوق المكتسبة مطروحا على طاولة الحوار ، و سيظل سؤال الضمانات الحكومية ذلك الغائب الكبير في نص مشروع القانون. أغلب البرلمانيين لا يهمهم مستقبل التأمين الإجباري عن المرض، و لا يعنيهم من سيتضرر من نسبة تغطية مصاريف التي ستضعف قدرتهم على مواجهة تكاليف العلاجات الغالية جدا. مشروع القانون الذي يطبخ على نار الأسعار المضطربة لا يضمن أي حق مكتسب. و إن لم تتحرك النقابات قبل فوات الأوان، فعلى كل النقابات السلام. و آنذاك سيبارك الجميع كل شكل نضالي جديد، و لو كان تنسيقية أو جمعية أو أية حركة إجتماعية لا تعترف بالمنظمات التقليدية ذات ماض فقط.
أعلم أيها الذي يظن أن مستقبل تأمينك الصحي بين أيدي أمينة، أنك تحلم بغد يعوم في سراب. حكومة بلادك ستجعلك في موقع الضعيف و الباحث عن من سيعينك على الولوج إلى العلاجات. كنت تشتغل في إدارة عمومية، انتميت إلى تعاضدية، و أسست هذه الأخيرة، إلى جانب تعاضديات أخرى، مؤسسة عمومية هي الصندوق الوطني لمنظمات الإحتياط الإجتماعي أو ما يعرف بكنوبس. و كانت هذه المؤسسة أولى مؤسسات التأمين الإجباري عن المرض. و دارت الدوائر بكل منظومتنا الصحية و التأمينية عن المرض لتصل إلى فتح الحكومة باب تفويض التغطية الصحية إلى القطاع الخاص و سلعنة الولوج إلى العلاجات. المهم هو كسر و تدبير كل آليات و تاريخ التضامن بين الأجيال و تعويض التضامن بنظام رأسمالي لا يخضع إلا لقانون العرض و الطلب. و بعد هذه السيطرة على مجال التغطية و الولوج إلى العلاجات، فليأتي طوفان أصحاب المال ، و ليقضي على كل أشكال التعاضد و التضامن و الإقتصاد التضامني الإجتماعي و كل مؤسسات التعاضد التي تجاوز عملها التضامني قرنا من الزمن.
نعم يجب تطوير العرض الصحي. و لا يمكن أن يقود هذا الورش الكبير غير مؤسسات الدولة العاملة في القطاع الصحي. و يجب أن نعتبر العرض الصحي للقطاع الخاص مجرد مكمل لدور الدولة و ليس الفاعل الأساسي في تطوير خدمات صحية في كافة أرجاء الوطن. لا يأبه هذا القطاع الخاص الذي يستولي على أكثر من 90% من أموال مؤسسات التأمين الإجباري عن المرض، بالقرى و الأحياء الهامشية و كل مراكز المدن الصغيرة لأنها لا تشكل موقعا للربح و لا لتراكم الثروات.
و يبقى السؤال هو” من المستفيد” الأكبر من اقتصاد مبني على الريع، و على الهيجان العقاري، و على الهجوم على كل المجالات الغابوية ، و بالطبع على اعتبار الصحة و التعليم، مصدرا لمراكمة الأرباح. و للتذكير، فقد أظهرت عمليات تحويل مخازن الأموال إلى النظام البنكي أن كل فئات الأوراق المالية لها أثر على مكونات الكتلة النقدية ، و بالتالي على تجاوبها مع مقتضيات ” نظام بازل 2″ الذي يحدد مستوى حجم القروض إلى المقاولات.
و سيظل مستوى الانتظارات في مجال التأمين الإجباري عن المرض الخاص بالقطاع العام محل انتظارات يجب تضمينها في مشروع القانون23 -54. التزامات الحكومة مسجلة، و لا يمكن التنكر لمحتواها. و كل تنكر سيخلق مزيدا من الأشكال الرافضة لأشكال الحوار الإجتماعي الكلاسيكية الحالية. نشهد بكثير من الأسف انهيار الكثير من مؤسسات الوساطة الإجتماعية. و في إنتظار تحسين مستوى الخدمات الصحية و أنظمة التغطية الصحية، يتزايد حجم القطاع الخاص المسنود بتطويع للسوق المالي، و يتم تهميش الأنظمة التضامنية و التعاضدية. و حذاري، حذاري من آثار الهجوم على الحقوق المكتسبة و كل مكتسبات الإقتصاد الإجتماعي و على رأسها مكتسبات القطاع التعاضدي و نسب تغطية المصاريف المرتبطة بالولوج إلى العلاج. قالت الحكومة أنها ستوحد أنظمة تدبير التأمين الإجباري عن، و أكدت أن هذا التوحيد لا يمكن أن يمس الحقوق المكتسبة للمؤمنين الحاليين طبعا. و لكن المنخرطين الجدد سيخضعون لكل أشكال التعامل التقنوقراطي حسب آليات السوق. و يمكن للدولة الإجتماعية أن تحارب الريع و الفساد لكي تتمكن من اكتساب تلك الشرعية التي لم تحصل عليها بعد. و في إنتظار كل هذا، تم إتخاذ القرار بالقضاء على أول مؤسسة لتدبير التأمين الإجباري عن المرض، و على التعاضديات و على كل أشكال الولوج إلى العلاجات من خلال مؤسسات الإقتصاد التضامني و الإجتماعي. و عند ألله تحتسبون. و ستظل المحاسبة على الأرض آتية لا شك فيها إذا تغلبت آليات المحاسبة على تقاليد المحاباة. ستظل التوازنات المالية على كف ” عفريت” في غياب قرار يعطي للدولة الإجتماعية شهادة ميلاد. شكل ميلاد المشروع الملكي الإستراتيجي الخاص بالتغطية الإجتماعية نقلة حقوقية كبرى. و سيظل تنزيل هذا المشروع، حسب أهدافه الأصلية، هو المعيار لإنصاف المواطن المغربي في المداشر و القرى و الأحياء الشعبية و المراكز الحضرية من طنجة إلى لكويرة.