بمناسبة صدور مذكرات المناضل اليساري الرفيق محمد فكري التي عنونها ب ” “يوميات الزغبي المنحوس”، أتقاسم معكم ومعكن تقديمي لها المعنون داخل الكتاب ب ” مسيرة الطيب الوفي “.
يقدم الرفيق محمد فكري نفسه في مذكرات مسيرته الحياتية والنضالية باسم ” المنحوس الزغبي”, وهو اسم غريب على سمات ومميزات شخصه كما يعرفها كل من عاشروه ورافقوه في هذه المسيرة منذ كان فتى داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى حين بوحه هذا, الحافر في جذور نشأته الاجتماعية والقيمية والسياسية ., إنه مسار حياتي لم يخل من محن , منذ الطفولة , ولربما ذلك هو ما يفسر إطلاق نعت ” المنحوس الزغبي” على نفسه, فهي تسمية تحيل على صعاب ومحن عاشها,وفصل القول فيها, لكنها لا تنطبق على خصال صاحب السيرة والمسيرة : مسيرة مناضل صلب وخلوق وصموت ووفي ومعطاء بلا حدود.
إن حلقات هذه المذكرات هي بمثابة حفريات في أعماق شخصية صاحبها , ونبش في العوامل العميقة المؤثرة فيها , والمنحدرة من أزمنة وأمكنة وعلاقات توقف عندها ” الزغبي” في حكي كرونولوجي سلس, وبوح ذاتي عفوي خرق الصمت الذي كان فكري يلف به نفسه ,والكتمان الذي يسم شخصيته , وهكذا اكتشفت , بعد قراءة مذكرات مسيرته أني لم أكن أعرف شخص فكري سوى معرفة سطحية رغم ثلاثة عقود من الرفقة ,وسنوات من العشرة معه تحت سقف واحد . حقا ,إن معرفة الغير, مهما كان قريبا, لا تعطى جاهزة كاملة دفعة واحدة , وإنما من خلال سيرورة تواصلية مديدة , يشكل البوح الذاتي ضمنها ” الطريق الملكي ” لمعرفة الآخر معرفة أعمق , فشكرا أيها الأخ والصديق والرفيق العزيز على بوحك الجميل والسخي الذي انصهرت فيه مسيرتك الحياتية بمسيرة كفاح وطن وشعب من أجل الاستقلال والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
ليس في نيتي عرض مضامين هذه المذكرات حتى لا أصادر على انتظارات القارئ من الوقوف عند تفاصيلها كما وردت في سرديتها, وسأكتفي بتحديد المفاصل المشكلة لها ,وذلك في العناوين المركزية الكبرى التالية:
1: مرحلة الطفولة : يحكي ” الزغبي” بإسهاب عن شروط تنشئته الاجتماعية منذ أن ” قذف به في الوجود” في واحة صغيرة تسمى آيت وابلي قرب مركز أقا ,على بعد 100 كلم من مدينة طاطا, وعن تنشئته في محيط اجتماعي محافظ متشدد تربى فيه على قيم السمع والطاعة واحترام الأكبر سنا,وعدم الحديث أمام الكبار, “وعدم رفع الرأس والنظر في عين من يحادثه” !
إن الصفحات المتعلقة بهذه المرحلة من مسيرة سي محمد تضعنا بدقة في قلب وعمق البنيات الاجتماعية والذهنية لمغرب أربعينيات القرن الماضي , فقد تمكن الراوي ” الزغبي ” من إعطاء صورة وصفية دقيقة وتفصيلية عن أماكن نشأته وترحاله (دواوير القصبة وإرحالن وتنزوين وزاوية سيدي عبد الله ..الخ) التي امتدت إلى زعير, وتمنار وتارودانت فمراكش والبيضاء.
لقد كان سي محمد طفلا رحالة منذ طفولته , حيث كان يسافر, إما تطلعا وسعيا لاكتشاف فضاءات أرحب تحقق أحلامه التي لا يسعها محيط قريته , وإما “هربا” من “شرط اجتماعي” خانق ,سعيا إلى آفاق تحتضن أحلامه الكبيرة, كما سيأتي لاحقا ذكرها.
إن حلقات هذه المرحلة من مسيرة “الزغبي” تشكل حفرا في ماضي تكون شخصيته, ورصدا للمؤثرات المرئية وغير المرئية التي حددت سماتها وخصائصها المميزة لها في الحاضر.
2 : مرحلة الدراسة والتحصيل: نجح ” الزغبي” في سن مبكرة من تحقيق مبتغاه من ذاك “الهروب”, فتدرج في التحصيل الدراسي : ففي المدرسة العتيقة بتمنار درس متون الجرومية وألفية بن مالك وابن عاشر والشيخ الخليل في الفقه والحديث , وحفظ البردة والهمزية , خاتما بكتاب البخاري , وبعدها شد الرحال إلى مراكش لاستكمال الدراسة بجامعة ابن يوسف ( دار البارود ) بمراكش . وفي هذه المحطة من ترحاله تبدأ مرحلة جديدة نوعية في مسيرة ” الزغبي”, هي مرحلة ” الشغف بالسياسة” , والإلتزام النضالي والحزبي المبكر.
إن تفاصيل هذا الجزء من مسيرة رفيقي سي محمد فكري ,يكشف عن سمة بارزة في شخصيته , وهو فتى في بداية شبابه, هي الثقة في النفس والاعتماد المطلق عليها مهما كانت الصعاب , وكذلك الصبر الجميل في مواجهة شظف العيش .
3 مرحلة الالتزام السياسي والحزبي : اهتجاس فكري بالشأن السياسي بدأ في سن جد مبكرة من خلال الاستماع لأحاديث الكبار في الدوار عن عسف المستعمر ضد المقاومين, وبالمواظبة على متابعة نشرات وبرامج إذاعة لندن , يقول في هذا الصدد ” مع الراديو حمل الزغبي فيروس السياسة الذي استوطنه منذ ذلك الحين ولم تنفع معه كل اللقاحات التي استعملها , بل اكتسب مناعة مضادة ومقاومة لها “(الحلقة 9 ) . إن حلقات هذه المرحلة تعكس حالة جيل بكامله عاش على وعود الاستقلال منذ نعومة أظافره,وتأثر بما عرفه المشرق العربي من مد وطني وقومي تحرري مع صعود الناصرية ومشاريعها القومية. ومن نافذة مسيرته ( أي الزغبي) كما حكاها يمكن للقارئ أن يقف عند الشرط التاريخي , السياسي والاجتماعي والثقافي لليسار الجديد, منذ كان جنينا في رحم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية نهاية الخمسينيات وعقد الستينيات إلى أن أمسى ” كيانا” مستقلا بهويته الإيديولوجية الماركسية .
إن حكي ” الزغبي” عن بداية التزامه الحزبي ,كمناضل قاطن بمقر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بمراكش,ومدبر لشؤونه ,وساهر على أجندة اجتماعات الكتابة المحلية, وأنشطة الشبيبة , وندوات الرابطة الفكرية , وعن علاقته بالمناضل المقاوم والقيادي الراحل سي الحبيب الفرقاني , وبقية رموز المقاومة والنضال الوطني بمراكش, إن ذلك وغيره , يشكل شهادة حية على تفاصيل النضال الاتحادي ضد الحكم المطلق طيلة حقبة الستينيات, وعلى البدايات الجنينية لميلاد وتطور تيار اليسار الجديد محليا , حيث كانت جل أطره اتحادية تنشط في الواجهة الثقافية ( الرابطة الفكرية) وتنظيمات الاتحاد الإقليمية . وفي هذا الحكي يحافظ سي محمد على خصلة التواضع التي تشكل العنصر الجوهري الثابت لهويته الشخصية , فلا إدعاء فيها أو تبخيس لموقف ما أو لشخص معين ممن عاش معهم تجربة نضالية صعبة ومريرة , خاصة في عقد السبعينيات , في العمل السري , وفي السجن .
4_ تجربة الاعتقال والسجن: من مقر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بمراكش ,انتقل الرفيق فكري إلى مقرات التنظيم السري الماركسي اللينيني ” منظمة 23 مارس”, الذي كان من مؤسسيه المغمورين أو ” جنديه المجهول”. وقد أشرف طيلة أربع سنوات , قبل اعتقالات نوفمبر1974 على طبع وإخراج نشرتي ” المناضل” الموجهة للقطاع التلاميذي ومناضلي النقابة الوطنية للتلاميذ , و ” 23 مارس ” الناطقة باسم المنظمة. ويمكن للقارئ لهذا الجزء أن يقف عند حجم تضحيات الرفاق العاملين في السرية في شروط صعبة لم تنل من إراداتهم الصلبة وقناعاتهم العميقة آنذاك “بحتمية الثورة ” . ولعل في ما جاء في المذكرات ” الزغبية” عن تجربة الاعتقال والسجن خير ما يشهد على ذلك.
ورغم أن تجربة القمع الشرس والشامل الذي تعرضت له الحركة الماركسية اللينينية منذ بداية السبعينيات إلى نهاية الثمانينيات , قد أشبعت بالنصوص السردية ,وبالشهادات المختلفة عن عنفها وقسوتها ومعاناتها ..فإن حديث “الزغبي” عنها اتسم ب”نكهة خاصة”, حيث ابتعد عن أي شكل من التظاهر ” ببطولة أو مجد”ما, أو ” شعور “بالندامة ” أوتبخيس التجربة بكاملها وكأنها لاشيء أو مجرد تعلق باهض الثمن “بالسراب” .! , واكتفى بانتقاء مشاهد ووقائع و” مستظرفات” للاستهزاء من غباوة الجلادين وجهلهم من جهة, وللتنويه بصمود وجلد رفاقه في معتقل درب مولاي الشريف في مواجهة التعذيب الجسدي واللفظي والنفسي, من جهة أخرى.
إن حلقات حكي فكري عن تجربة الاعتقال والسجن تشكل إضافة نوعية, لمختلف ما كتبه عنها العديد من معتقلي اليسار الجديد. لقد تلون حكي الرفيق فكري عن يوميات المعتقل والسجن بالعمق الإنساني لشخصيته المتسامحة والإيجابية والمتواضعة والمتعاطفة مع الآخرين بغض النظر عن أي اختلاف في الآراء والتوجهات والمواقف . إنها خصلة وقيمة الوفاء لرفاق الدرب التي لا يترك ” الطيب الوفي” ( وليس الزغبي المنحوس ) محمد فكري أية فرصة أو مناسبة دون التعبير عنها ,ومنها مذكرات مسيرته النضالية والحياتية هذه .
ملحق الوفاء والاعتراف: في جميع حلقات هذه المذكرات يتوقف سي محمد عند أصدقاء ورفاق لعبوا دورا سواء في حياته الخاصة أوفي مسيرته النضالية , فيعرف بهم, ويعترف بأثرهم الإيجابي على مساره , هكذا تحدث عن قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بمراكش كالأستاذ والمقاوم والأديب محمد الحبيب الفرقاني, والمقاوم إدريس الطغرائي , وعن بعض مناضلي القاعدة الشعبية للحزب من حرفيين وتجار صغار.., لقد أحسن الرفيق فكري صنعا بتخصيصه لملحق ضم بعض أسماء الرموز التي طبعت الذاكرة اليسارية ووشمتها, إنه ( الملحق)عربون وفاء لجميع رفاق دربه ومسيرته على اختلاف أجيالهم وأحزابهم وفصائلهم ؛ ففي الملحق نقرأ عن الشيخ الجليل والسياسي الشجاع محمد بن العربي العلوي , وعن الزعيم القيادي والشاعر والمربي محمد الحبيب الفرقاني , وعن شيخ اليسار الذي وضع تشبثه بالوطن فوق كل اعتبار وقدم نموذجا في صمود اليسار الراحل أبراهام السرفاتي , كما نقرأ تعريفه ” بعقل اليسار الجديد” المغمور المرحوم محمد حنفي الذي يعتبره فكري” الشخصية الاستثنائية التي يرجع لها الفضل في زرع قيم الإيثار ومبادئ الحرية والكرامة..” لدى جيل يساري بكامله , كما توقف عند رفاق استعجلهم الموت وهم في قمة العطاء , كالرفيق عبد السلام المودن , والرفيق عبد العزيز طليمات والرفيق محمد تيريدا , دون أن ينسى بعمق إنسانيته التعريف بالرفيق عباس المشتري الذي يمر من وضعية صحية صعبة , وفي الملحق شخصيات ورموز أخرى للقارئ الوقوف عندها .
هذه قراءة وصفية موجزة ” لمذكرات مسيرة الرفيق محمد فكري التي يتماهى فيها ماهو خاص وشخصي في حياته بما هوعام ومشترك, أي بالوضع السياسي وصراعاته وأزماته من جهة ,وبالالتزام الفكري والتنظيمي بإستراتيجية التغيير الجذري من جهة ثانية .
بعد عشر سنوات من السجن, سيواصل فكري مسيرته ضمن إستراتيجية النضال الديمقراطي. ومن داخل منظمة العمل الديمقراطي الشعبي سليلة منظمة ” 23 مارس” , ومن مقر جريدتها “أنوال ” تبدأ مرحلة جديدة في مسيرته , مرحلة غنية بروابطها الاجتماعية والإنسانية والرفاقية تستحق هي الأخرى بوحا وحكيا خاصين .
شكرا رفيقي الغالي على مبادرتك الشجاعة برفع حجب كثيرة , بصراحتك وصدقك المعهودين فيك , عن مسيرتك التي لايمكن إلا أن يعتز بها كل من عرفك عن قرب أو عن بعد , وسيجد , نفسه داخلها بشكل من الأشكال , فلتكن هذه المبادرة حافزا لكتابات أخرى تعززها , وتساهم في حفظ الذاكرة المشتركة لليسار الجديد .
جليل طليمات / سلا