الأكلة الشعبية بجامع الفنا
مع انسدال الظلام يتحول جزء كبير من ساحة جامع الفنا إلى مطعم شعبي على الهواء الطلق،مطعم عالمي بالنظر إلى زبناءه،يتناول فيه الفقير والثري جنبا على جنب كراسي خشبية واكلات متنوعة تتقدمها قوافل من عربات مجرورة تحمل كراسي وطاولات وصناديق مملوءة بأطباق وكؤوس،يقف الملعلم يراقب صبيانه وهم يفرغون العربات كل واحد في مكانه المعتاد أو ما يصطلح عليه ب ” كلسة “يتم كراءها من المصالح البلدية،بعد تهيء المكان يتدخل المعلم لفرز الأطعمة ووضعها على الطاولات بطريقة تحفظ نظافتها وتثير شهية الوافدين على الساحة،فوق كل طاولة لوحة خشبية عالية تحمل رقم ” الكلسة “واسم صاحبها ونوع الأطعمة وأثمنة كل صنف منها.
أكوام من الأطعمة الشهية تعرض في مطاعم متنقلة تبدأ في الخامسة مساء وتستمر إلى ما بعد منتصف الليل حيث تكون جميع السلع قد نفذت بما في ذلك الصوصيص.
يقف بعض الشبان خلف الزبناء لإثارة انتباه آخرين وتقديم ابتسامة ترحيب بهم، في يحن يعمل آخرون على تهيئ الوجبات منهم من يتصبب عرقا وهو يسحب كتلة من اللحم من طنجرة كبيرة بجانبه يضعها على الشواية بينما يأخذالأخرى التي كانت مكانها قبل قليل يضعها فوق الوحة الخشبية ويستل العظم وهو ينفض يديه من شدة سخونتها.بسكين عريض مشحوذ يقطع اللحم قطعا صغيرة ويضعها في أطباق ورقية ويقدمها مساعده للزبون الذي نفذ صبره من الانتظار،بينما يتكلف آخر بتسلم النقود ووضعها في جيب رداء المعلم الأبيض الذي فقد لونه من شدة الدهون.بهذا المطعم الشعبي يجلس الناس جنبا إلى جنب بمختلف شرائحهم يلتهمون ما لذ من الأطعمة بل عن حتى ذلك الرجل الذي أقسم ألا يأكل خارج بيته لا يغادر الساحة إلا وهو متخم بأكلة لن يتسنى له أكلها إلا في جامع الفنا.
يتم الحديث عن سائح أراد تقليد أكلة باولو ولم يفلح في ذلك رغم تتبع نصائح المعلم باولو قبل أن يخبره هذا الأخير ” بكونه أصر على النظافة أكثر من اللازم ” هذه القصة التي يتداولها أهل مراكش ليست الوحيدة من نوعها وهي على الرغم من الصورة السيئة التي تعطيها عن المطاعم الشعبية المنتشرة في الساحة إلا أنها كذلك تقطع كل محاولة لتقليد أطباق مراكشية.
بامهدي بائع السمك والذي كان يتمتع بخفة دم لا تضاهيها حتى تلك التي تميز حلايقية الساحة وكانت هي الطريقة الوحيدة لجلب زبناءه من جهة وتبديد جو التعب والملل من جهة ثانية،كان بامهدي يقول لزناءه: لست مجبرا على ىأن أقسم لكم إن هذا السمك الذي اقدمه من أجود الأسماك وأكثرها طرواة،شاحنة واحدة دخلت صباح اليوم أخذت منها صندوقين في حين تسلم فندق المامونية أربعة صناديق ووزعت باقي الصناديق على المطاعم والفنادق الأخرى ” ثم ينفجر ضاحكا.
كان الملعلم باسلام يبيع سندويتشات باللحم والمرق لا تتعدى ثمنها درهمين وبينما كان منشغلا يعد واحدا لأحد لزبناءه ساله أحد الواقفين: أي لحم هذا؟أهو للبقر؟رمقه باسلام بنظرة حاقدة وقال:هذا لحم من اللحم ! ما لم يكن يعرفه باسلام هو أن ذلك الرجل من أعوان السلطة الذين أوكلت إليهم مهمة جمع الإتاوات بدعوى مراقبة الأطعمة المعروضة وهم لا يفقهون في مهمتهم شيئا ليجد باسلام بعد ذلك نفسه بي يدي صاحبنا الذي كان قد أرسل في طلبه يستفسره عن سر الوجبات التي تباع بأبخس الأثمان باسلام لم يكن الوحيد الذي يبيع هذه النوعية من الأطعمة فهناك عمر بطاطا و المرحوم بامهدي لكروش الذي اشتهر بقطبان اللحم يتسمر في مكانه من الخامسة إلى منتصف الليل،ارتبط نشاطهم بفئة اجتماعية معينة مكونة أساسا من ابناء الساحة وقد كان بعضهم يحمل قطعة خبز ويطلب من باسلام أن يرشها ببعض المرق الذي كان يوزعه بالمجان.عند باسلام كان الفقير يجد نصيبه من اللحم الطري والمرق الشهي بدراهم معدودة في ساحة تنفرد بكرمها اللامحدود.
انفرد عمر بطاطا بأكلته الممبزة المكونة من خبز محشو بحبة بطاطس يصب فوقها قطرات من زيت الزيتون وقليلا من الملك والكمون،كانت هذه الأكلة الخفيفة التي لا يتجاوز ثمنها خمسين ستيما وفي متناول الفقراء ممن قذفت بهم الحياة في الساحة على الرغم من بساطة الأكلة التي يسميها المراكشيون طعام الفقراء فهي أكلة لم تكن تقل شهرة عن باولو وعن أطباق أخرى.
اشتهر السي عبد السلام بائع ” الكرعين ” بخبز الشعير منذ الساعات الأولى من الفجر يشرع ” خبز الشعير ” في تقديم أطباق يفضلها هؤلاء الذين لفظتهم حانات مراكش وهم يتضورون جوعا،تقودهم خطواتهم المتعثرة وكلماتهم المتلعثمة إلى مطعم ” خبز الشعير “جملة واحدة تتردد على ألسنة الضيوف “ربيع وكريع ” أي ربع خبزة من الشعير وقطعة واحدة من ” الكرعين “يبدأ خبز الشعير في تقديم وجباته على الساعة الثالثة صباحا ويستمر إلى حدود التاسعة صباحا،والمثير عند خبز الشعير أن مطعمه ينقلب صباحا إلى محل تجاري لبيع الملابس،لازال خبز الشعير الذي اشتهر ببيع طبق من ألذ أطباق جامع الفنا بحي القصابين يقدم خدماته بسخاء على غرار باولو حيث استمد لقبه من نوعية الخبز الذي كان يقدمه في السابق ” الشعير “وهو بالإضافة إلى كونه من أمهر طباخي طبق ” الكرعين “بجامع الفنا فهو منشط بامتياز يعرف كيف يدغدغ أمزجة زبناءه بعبارات الساخرة ويجعلهم يقضون أوقات رائعة في ضيافته.
في السابق كان أصحاب الأطعمة يعرفون بأسمائهم وبنوعية أكلاتهم أما الان وبعدما تضاعف عددهم عدة مرات فإنهم أصبحوا يصنفون بأرقام تعلو طاولاتهم تميزهم عن بعضهم البعض،كما أن استبدال الفوانيس الغازية بمصابيح كهربائية أفقد الساحة سحرها التقليدي حيث كانت الأولى منسجمة والطابع التراثي للساحة بالإضافة إلى أن شريحة واسعة كانت تعتمد على تجارة أنابيب الغاز لتجد نفسها اليوم بين أنياب الفقر.على مدى عقود استطاعت الساحة أن تحافظ على الأكلات الشعبية بجامع الفنا بنفس درجة الحلايقية وقد تحولت أسماء بعضهم إلى أكلات مشهورة تحمل أسماء أصحابها رغم رحيلهم عن الساحة.