آخر الأخبار

حلقات جامع الفنا ـ 7 ـ

محمد باريز حكواتي من الجيل الجديد

يمثل محمد باريز الجيل الجديد من رواة السير نحيل الجسم تنم نظراته عن ثقته بنفسه، الكلام ينساب على طرف لسانه على شكل حكم وأمثال،طريقته في سرد الحكايات تخفي وراءها وقارا كالذي يميز أبطال رواياته فتبدو تقاسيم وجهه القاسية وصرامة مواقفه الحازمة كما لو أنه شيخ حكيم رغم أن سنه لا يتجاوز الخمسين كثيرا.

تتلمذ باريز على يد شيوخ الحلقة ( العونية أحمد الوريكي الشويخة ) يبدو كما لو انه شيخ هارب من إحدى القصص التي يرويها لحيته كثة تغزوها شعيرات بيضاء والصوت يخرج من حنجرته قويا مدويا تارة، تخرج نبرات صوته حزينة،وهو يحاول أن يكتم أنفاسا تثقل صدره في محاولة لاسترجاع الأسماء التي تأبى أن تغادر ذاكرة مطيعة وسخية،يعتز محمد باريز بذاكرته التي لم تخذله يوما،وهو الذي يبدأ عقد حلقته والقصص تنتفض وتتراكض في رأسه خيولا لا يعرف ما يختار منها،و لاتكاد تمضي دقائق معدودة بعد أن يكون قد شرع في سرد المدخل الذي يفتتح به ” الحلايقية ” عادة حلقاتهم حتى تنساب تفاصيل إحدى الحكايات على لسانه وكأنها صفحات يقرؤها دون تعلثم.

نشأ محمد باريز في كنف والد يعمل حرفيا في صناعة الحقائب الجلدية بعرصة الحوتة وهو الابن الثاني وسط أربعة إخوة.يتذكر باريز أنه كان يرافق والده إلى الدكان في أوقات فراغه وايام العطل صحبة أخيه الصغير،وهناك كان الأب يحكي لإبنيه بعض القصص لتبديد جو الملل الذي كان يتسرب إليهما جراء المكوث طويلا في الذكان وتعلم الحرفة التي كان الوالد يحرص أن يتعلمها أحس باريز برغبة وتلهف شديدين لسماع المزيد من القصص،وكبرت هذه الرغبة في داخله لحد لم يعد يستطيع معه كبحها.

لم يعد باريز يجد متعة في سماع القصص والده التي أصبحت تضجره، بعد أن رافق والدته ذات يوم إلى سوق الربيع وهناك اكتشف أن حكايات مولاي امحمد الجابري أفضل من حبكة وأوسع خيالا من تلك التي اعتاد سماعها،منذ ذلك اليوم لم يكن يشبع نهمه لسماع الحكايات فواظب على على حضور حلقات الجابري بسوق الربيع،هذه الحلقات بجورها قادته إلى جامع الفنا وهناك سيكتشف عالما آخر من الرواة لتصبح حلقاتهم الفصل الذي يتعلم فيه دروس الحكاية وسير الأنبياء والأولياء، انتبه الحلايقية للتلميذ النجيب الذي اضحى ضيفا دائم الحضور على حلقاتهن فما كان منهم إلا أن عمدوا إلى طرده، حتى تفوته فرصة التعليم.لكن الطفل المسكون بلعنة الحلقة لم يستجب فقد كانت هذه الأخيرة تيارا جارفا يحمله إلى جامع الفنا شاعت أخباره ووصل صداها إلى والده الذي لم يستسغ المسألة خصوصا وأن جامع الفنا كان يرتاده من لفظهم المجتمع وأخفقوا في تعلم حرفة تنفعهم،كما أن العمل في الحلقة كان مرفوضا لأنه عبارة عن وسيلة للتسول ليس إلاَ.

يتذكر باريز منعطف غير مجرى حياته وجعل الحلقة قدره الذي لن ينفلت منه،ففي صيف نفس السنة استطاع باريز أن يحصل على مبلغ 30 درهم كان قد سرقها من والده وبمبلغ ثلاثة دراتهم ونصف اقتنى تذكرة سفر وتوجه إلى بني ملاب حيث عاش هناك حياة قاسية يقول عنها: ” الجوع والنوع والبكاء بلا دموع “هناك كان يتنقل من عائلة إلى أخرى، يعمل راعي أغنام في قبيلة تدعى ” أولاد ربيعة “ظل هناك فترة طويلة قبل أن ينتهي به المطاف إلى مدينة الفقيه بن صالح حيث عثر على راو بأحد الأسواق وجد باريز نفسه أحسن منه في الحكي،وسنه أنذاك لا يتجاوز الحادية عشرة.

نشطت ذاكرته فعقد أولى حلقاته وكانت تحكي عن جوهرة بنت السمندل مع الملك شهرمان يتذكر باريز أنه رواها ببراعة لمسها في عيوزن جمهوره،دون أن ينتابه الخجل والارتجال بمجدر ما انتهى من سردها وجد الناس ينصرفون عنه دون أن يعطوه شيئا باستثناء شيخ عجوز تقدم نحوه وهو يخرج كيسا من تحت جلابيبه،وبعد جهد استطاع أن يخرج ريالا كبير الحجم ناوله إياه وانصرف.

حول ذكرياته عن الساحة تفيض ذاكرته بأسماء لا زال يكن لها كل الاحترام والتقدير ويعتبرها فريدة ومتميزة ومن الصعب أن تتكرر بساحة جامع الفنا : الصاروخ بقامته الفارهة وشجاعته في استفزاز الجمهور وإثارة غضبه وقدرته بعد ذلك على امتصاص هذا الغضب وتحويله إلى هزل،وذلك الموهوب الذي لم تنجب الساحة مثله إنه طبيب الحشرات الذي عرف كيف يجعل المسافر يمزق تذكرة سفره أكثر من مرة تحت وطأة سحر حلقته،ثم الشرقاوي مول الحمام وصديقه بنفايد الذين تفننا في منطق الطير.

الجلوس إلى محمد باريز متعة في حد ذاته فثقافة الرجل واسعة وذاكرته قوية والحقيقة أن ما يميزه عن هؤلاء جميعا هو وصوله إلى أماكن لم يطأها غيره,فبمساعدة بعض المثقفين الذين اشتغل على نصوصهم استطاع محمد باريز أن يحول نصا مكتوبا لبورخيس ألقاه بجامعة سيام 3 إلى رواية شفوية ألقاها بمناسبة الذكرة 800 لوفاة ابن رشد،وقدم نفس العرض في أماكن عديدة بتولوز وبوردو كما اشتغل على نصوص لعبدالفتاح كيليطو ” رسال من وراء القبر ” و رجال وكلاب ” وفي حديثه عن الحكواتي هناك في الضفة الأخرى يول محمد باريز بحسرة وأسى هناك اكتشفت مدى الاحترام الذي يحظى به الفنان في الوقت الذي نعاني فيه التهميش والتحقير ونموت بين أنياب الجوع والفقر وكعادته يعقب بالمثل الشعبي ” إيلا لقيت أهل محبتي تنولي جمل وبدروتي ،وإيلا لقيت قلالين محبتي تنولي حمار وبردعتي والمنغاز في شاكلتي”.