ولقد اخترت أن أبدأ بشهادة من ماركس، يعرفها جميع أتباعه جيدا، لأنها شهادة مفتاحية في المذهب الماركسي. ولكي أجعل منها نافذة أُطل منعها على بعض القضايا، القديمة والراهنة، وليس على كل القضايا التي تطرحها الماركسية بالأمس واليوم. والشهادة هي التالي :
[يدخل البشر عند إنتاجهم الاجتماعي لوجودهم في علاقات محددة، ضرورية، مستقلة عن إرادتهم. وهي علاقات إنتاج تناسب درجة محددة من تطور قواهم الإنتاجية المادية (انتبهوا، فالتشديد هنا على قوى الإنتاج المادية). وجملة علاقات الإنتاج هذه (انتبهوا، المكونة من العلاقات الاجتماعية المحددة، وقوى الإنتاج المادية) تكون البنية الاقتصادية للمجتمع، أي القاعدة الملموسة التي تبنى عليها بنية فوقية قانونية وسياسية، والتي تناسبها أشكال معينة من الوعي الاجتماعي (…) إن قوى المجتمع الإنتاجية المادية في مرحلة مَّا من تطورها، تكون في تناقض مع علاقات الإنتاج الموجودة، أو مع ما ليس إلا تعبيرا عنها، أي علاقات الملكية التي تغيرت داخلها (هذه القوى) حتى تلك المرحلة. وهكذا تبدأ فترةُ الثورة الاجتماعية. وعند اعتبار هذه التغيرات يجب التمييز دائما بين التغيير المادي لظروف الإنتاج الاقتصادي، الذي يمكن معاينته بطريقة علمية محكمة، وبين الأشكال القانونية والسياسية والدينية والفلسفية، أي باختصار الأيديولوجية، التي فيها يعي البشر هذا النزاع ويقوده حتى النهاية.]
على هذا النص المفتاحي الفاصل والعميق، والذي قيل عنه، أنه أحدث ثورة كوبيرنيكية في العلوم الاجتماعية والتاريخية منها خاصة، سأقدم جملة من الملاحظات مستحضرا في بعضها الزمن الحاضر.
أولا: شكل هذا النص البنية التأسيسية للتصور المادياني – التاريخاني الماركسي، وإذا تمعنا جيدا في هذا النص، فلابد أننا سنلاحظ الأمور التالية:
Å أن المجتمع (وتاريخ المجتمعات عامة) يقوم في التعليل الأخير، أو أولا وأساسا، على إنتاج الخيرات المادية التي هي قوام استمرار الحياة والوجود الاجتماعي.
Å إن مسلسل الإنتاج هذا، يتشكل في “جملته” بتعبير ماركس، من قوى الإنتاج المادية، وهي هنا، مستوى التطور التقني، وكذا كيفية تنظيم عملية الإنتاج، وكل الوسائل المادية التي تكمل أو تسرع مردوديات عمليات الإنتاج. ومن علاقات الإنتاج، بالمعنى الضيق أو الحصري، وهي هنا، علاقات الملكية والتملك لقوى ومصادر الإنتاج، وبالتالي، للكيفية التي توزع بها مردودياته. وهذه الجملة من علاقات الإنتاج بتركيبيتها المزدوجة هي التي تكون البنية الاقتصادية للمجتمع. والتي يمكن ضبطها إجرائيا، وينبغي تمييز تغييراتها عن البنية الفوقية التي فيها يعي البشر “النزاع” بين البنيتين ويقود هذا النزاع حتى النهاية…
محمد الحبيب طالب