نحن إذن أمام نص في غاية التجريد التاريخي. والسؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن: لماذا ماركس أصر على توصيف ماديانيته التاريخية بـ “التصور” ولم يستهويه كثيرا توصيفُها “بالعلم”، كما ورد في رسالة له إلى باكونين، يقول فيها “لست أستعمل اصطلاح الاشتراكية العلمية إلا في مقابل الاشتراكية الطوباوية”. وفي أقوال أخرى، مثل، “كل ما أعرفه أني لست ماركسيا”، أو حين طلب من أنجلز كتابة رسالة تحفيزية للجريدة التي كان يعول عليها أن تنشر له بعضا من “رأس المال”، يقول فيها بتهكم، إكتب لهم أنه كتاب مادي، لكي تفرح الجماعة. غايتي من هذه الجزئيات، التي قلما يتم الاهتمام بها جيدا، والتي تبين حذر ماركس الشديد من التمذهب العقائدي، ومن الماديات التي كانت لازالت سائدة في عصره، أن أقدم خلاصتين أساسيتين:
الأولى: أن الماركسية ليست “العلم” بالتعريف، ولا هي فلسفة تركيبية لمناهج العلوم، كما ذهب إلى ذلك ألتوسير، إنها فلسفة ونظرية ومنهج للممارسة، تأخذ كل مل جد من تطورات فاصلة في ميادين العلوم، ولكنها تأخذ وتستهدف أساسا جميع الممارسات الاجتماعية التواقة إلى التحرر من النظام الرأسمالي. وهي بهذا المعنى نظرية مرشدة للممارسة الثورية إن شئتم.
والثانية : أن تكريس توصيف الماركسية والاشتراكية “بالعلمية” في المرحلة الستالينية خصوصا، كان له أشد الضرر على الاشتراكية وعلى الماركسية، معرفيا وعمليا. فأحدث بذلك وثوقية دوغمائية علموية أفقرت الماركسية وصنمتها. فكانت مجرد غطاء أيديولوجي مظلل لبيروقراطية مستبدة حاكمة أو بازغة.
الملاحظة الثانية : بتحدث النص عن “البشر أو الناس” وهم يصنعون وجودهم الاجتماعي في شروط يرثونها ومستقلة عن إراداتهم. وبالتالي، تكون هذه الاستقلالية فاعلةً ومفعولةً في آن واحد. أي أنها مشروطة بالتراكمات السابقة التي توصل إليها البشر في ميادين الإنتاج، والتي تحد وتؤسس في آن لتطوراته اللاحقة. ومن الملاحظ، هنا، أن النص يتحدث عن “البشر أو الناس” ولا يصنف أيَّ طبقة اجتماعية معينة. ولعل هذا التعميم يجد تفسيره في أنه يتحدث عن التاريخ البشري بإطلاقيته. أما تشخيصاتهُ الطبقية في أي مجتمع، فهو مستوى آخر في التحليل الذي ينبني دائما على نفس المنهجية التي جاء بها النص. وما يهمني إذن في هذه الملاحظة هو الجانب المطلق في ذكره “البشر أو الناس”. والذي يؤسس للماديانية التاريخية. وبالتالي، إذا قيل على سبيل المثال، أن التطور المعاصر للنظام الرأسمالي العالمي يبين “أن الطبقة العاملة التقليدية التي تعتمد على “بيع قوة عملها” ليست في مجرى هذا التطور سوى طبقة انتقالية قابلة للانقراض أمام بديلها لطبقة عاملة جديدة تعتمد أساسا على قوة عملها الذهني. فإن هذه الحقيقة وغيرها من الطعون المشابهة لا تسقط إطلاقا التصور المادياني للتاريخ، لأن هذا البديل لا يلغي مقولة “البشر” الذين يصنعون وجودهم الاجتماعي في شروط مستقلة عن إرادتهم إلى آخر المنهجية الواردة في النص.