وهل الأرقاء والأقنان شكلوا في التاريخ طبقتين لذاتهما، أم أن هذا المفهوم لا ينطبق إلا على الطبقات saالحديثة، البورجوازية ثم البروليتاريا افتراضا. ومن هذه الوجهة، هل لابد وأن تكون الطبقة قادرة على قيادة نمط إنتاج جديد حاملة له، كما فعلت الطبقة البورجوازية على سبيل المثال، والبروليتاريا على سبيل الافتراض !
ما يهمني في هذه العجالة الخلاصتين التاليتين :
أولا: يحتفظ التصور المادياني الماركسي السابق، عدا قدراته على التحليل التاريخي البعدي، على جميع صلاحياته الإجرائية، من حيث ينبغي على الدارس الماركسي أن يعطي الأولوية لتحليل البنية الإنتاجية التحتية لأنها هي التي ترسم له نمط الإنتاج الممكن. ولعل هذا الفهم هو جوهر انتقادات ماركس وانجلز للاشتراكيات الطوباوية، وليس بعيدا عنه انتقادات لينين للشعبوية الروسية في بحثه عن تطور “الرأسمالية” في روسيا.
ثانيا: وعلى أساس هذه المعرفة الضرورية، يمكن تحليل مختلف الصراعات الاجتماعية السياسية والاقتصادية والأيديولوجية، ومدى ارتباطها بالمصالح الموضوعية لهذه الطبقة أو تلك ولتفرعاتها الفئوية وغيرها، وكذلك للعلاقات البينية التي تتشكل خلال هذا الصراع بين المكونات الاجتماعية، والتي لا تعكس دائما المصالح الطبقية الموضوعية. ولنا في التحليلات السياسية لكارل ماركس نموذجا ثريا لغنى وتعقيد الصراعات الاجتماعية وتفردها في كل مجتمع، وعدم مطابقتها دائما لتحليل المصالح الموضوعية لهذه الطبقة أو تلك.
وهذا يطرح علينا سؤاالا آخر عن مكانة ودور الدولة في هذا التصور المادياني. وهذه قضية أخرى سأتركها جانبا، وكل ما أستطيعه في هذه العجالة أن أؤكد على الخلاصات التالية:
أولا: إذا كانت الماركسية قد شددت على الطبيعة الأداتية الطبقية للدولة، فهي لم تنكر قط أدوارها الكبرى في الحفاظ على وحدة التكوين المجتمعي وإنمائه، أي بحسبان “الدولة مجالا عاماً” أيضا.
ثانيا: يمكن الفصل نظريا بين السلطة (المجال السياسي الخاص) وبين الدولة (المجال البنيوي العام)، لكن هذا الفصل يحتاج دائما إلى وصل في أي تعيين لنظام اجتماعي محدد. فليس هناك دولة بلا سلطة تخدم مصالح كتلة اجتماعية معينة. وهذا حال جميع الدول، بما فيها الدول الليبرالية المتقدمة اليوم. وهذه الخلاصة موجهة بالضبط ضد الوثنية الأيديولوجية الليبرالية السائدة في هذا العصر التي تتستر على المصالح الطبقية التي يخدمها نظامها الليبرالي.
ثالثا : إن النقد الرئيس الذي وجهته الماركسية للدولة الليبرالية وللمجتمع البورجوازي، كما كان يسميه ماركس، ليس إلغاءً للديمقراطية الليبرالية، وإنما لقصورها التاريخي، لكون المجتمع المدني الناجم عنها يكرس انشقاقا بنيويا بين المواطنة السياسية القانونية، والمواطنة الاجتماعية البنيوية، أوبين “المجتمع المدني” و”المجتمع الإنساني” الذي تشده الماركسية. أما تشديد الماركسية على العنف الثوري في انتقال السلطة للبروليتاريا، فقد كان في ظروفه التاريخية مبدءا دفاعيا دائما، وليس مبدءا مطلقا، مواقف ماركس في الانتقال الديمقراطي الممكن في أمريكا وبريطانيا وغيرهما خير شاهد على ذلك.
رابعا: لم تتحقق ديكتاتورية البروليتاريا ولا خلاصات ماركس من كومونة باريس كما تصورها (وكما تصورها لينين أيضا). فلقد كان هذا التصور في مجموعه إذن أكبر من تعييناته التاريخية. وعلى الرغم من أن دور البروليتاريا صار وإلى زمن غير يسير واقعا حيا وحابلا بتوقعاته.. إن ما جرى عكسيا في الحصيلة لا يسقط معه التصور المادياني للتاريخ، كما لا يعطي لأشكال تنظيم الدولة الليبرالية ضمانة تاريخية مطلقة ونهائية.
خامسا: قيل الكثير من النقد المعاصر لأطروحة ماركس في “اضمحلال الدولة”، ومفاده، أنها مجرد طوبى لا غير، وحتى أنها طوبى خَلاصية لترسبات دينية في العمق. لن ندخل في تفاصيل هذه الانتقادات، ولا في تحديد ما عناه ماركس من هذا الاضمحلال، وإنما سألفت نظركم إلى أن مناقشات جديدة تجري حول مصير الدولة الوطنية في زمن العولمة والثورة التقنية المتسارعة، وما يفضي إليه ذلك من تنقيص مضطرد لمفهوم السيادة الوطنية. ومن هذه المناقشات من أضحى يرى أن التطور الموضوعي لهذه الدينامية التاريخية سيرجح، إن لم تكسره عوائق طارئة كالحروب مثلا، إلى نشوء حكومة عالمية في الأفق البعيد. وبدون تفاصيل إضافية، فإن هذا الجدل لوحده يؤكد أطروحة ماركس في أن التطور الموضوعي للمجتمع هو مصدر الدولة، وأن لا صنمية لأي ظاهرة اجتماعية ومنها الدولة، فأشكالها ومضامينها قابلة للتغيير أيضا.
محمد الحبيب طالب