لا أريد هنا أن اكرر ما ذكره عدد من الرفيقات والرفاق خلال حديثهم عن خديجة، من حيث انتمائها الى اسرة مناضلة، ترعرعت في في حضن وعلى ركبتي واحدة من امهات المعتقلين السياسيين، مجموعة مراكش 1984, ولن أكتب عن إصرارها حضور كل الصيغ النضالية التي نظمتها لجنة دعم الرفيق المعتقل بودا، وما يكلفها ذلك من تضحيات جسام، ولا يتوقف الأمر هنا عند تحمل مصاريف التنقل من مراكش إلى خنيفرة على مرتين، وبني ملال مرة، ولولا أن بودا ناشد رفيقاته ورفاقه وعائلته عدم الحضور في الجلسة الابتدائية الأخيرة بسبب الإجراءات الاحترازية لمنع تفشي كورونا، لتنقلت خديجة مرة رابعة لمؤازرته، بل تترك خلفها اسرتها بمن فيهم طفلة صغيرة، تسافر ليلا وتصل قبل الفجر فتنتظر في محطة الحافلات في انتظار رحيل الظلام، وفي لحظات الانتظار تلك، يتطابق المجاز والحقيقة لمعنى انتظار بزوغ الفجر. لا يفوتني هنا الوقوف عند عامل مهم مساعد أي حظها في لقاء رفيقها وزوجها الصديق عبد الحق مظفر، مناضل وانسان من حرير، لكنه مثين لا ينقطع. ولن أذكر أنني لا أكاد أتذكر محطة نضالية محلية أو وطنية إلا ولاحت خديجة بين صفوف المشاركين بابتسامة تنبع من قلب طيب.
صلابة خديجة جسدتها من خلال موقف متميز، لم أحضره شخصيا لكن رفاقا حكوه لي بإعجاب، فقد عاش زوجها تجربة خاصة، تمثلت في نزاع بينه وبين مالك المأذونية التي يستغلها هو، لما انصرم العقد طالب المالك برخصته قصد بيعها لمدان في الاتجار الدولي للمخدرات بثمن خيالي. عرض النزاع على القضاء، وهددت النيابة العامة عبد الحق بالاعتقال إذا لم يسلم الرخصة لمالكها، لكنه تشبث بأحقيته في استغلالها مادام ليس هناك مسوغ لإنهاء العلاقة الكرائية. عرض المالك مبلغا مهما من المال على عبد الحق، ولما استشار هذا الأخير زوجته في موضوع الاختيار بين اقتراح المالك أو السجن، كان جوابها واضحا وتابثا لا يخالجه تردد:
– عبد الحق… غير انزل (تقصد انزل إلى دهاليز الاعتقال)
لعل زوجة في مكانها كانت ستتردد، وسيغلب عليها الخوف على مصير اسرتها وزوجها، وستكتفي بما عرضه الخصم كحل صلحي، لكنها أظهرت شجاعة ناذرة، وأمدت زوجها، ومعه المتعاطفين معه والمدافعين عن قضيته في عموميتها، بشحنة الصمود والمقاومة، التي ستكون سر انتصارهما في معركة كانت أكبر منهما، إذ لم تكن مجرد معركة لتأويل علاقة بين طرفي معاملة تجارية، ولكنها كانت معركة مجتمع وقطاع بأكملهما، ولم يكن الخصم شخصا يملك مأذونية، بل كان الخصم هو الريع والفساد والاحتكار وتبييض أموال المخدرات وبيروقراطية النقابة، كما كانت معركة بالنيابة عن مئات من الكادحين الذين يعيشون نفس الوضعية، يستثمرون كل مذخراتهم، ويقترضون من البنوك، ويتحملون إجحاف الدولة دون اعتراف ودون حق في الولوج إلى خدمات الحماية الاجتماعية، ليرمى بهم في نهاية العقد إلى البطالة بعدما يكون الشباب وطراوة الجسد قد وليا، وصار من الصعب نفسيا الاندحار من مالك للطاكسي إلى سائق.
كان توجيه خديجة لزوجها أن ” انزل… يا عبد الحق” إعلان تمرد على كل ما سلف، وصافرة حرب انطلقت ولا زالت أشواطها تجري بين محسوبين على موقع الكادحين من جهة ومعسكر الاستبداد والفساد والريع والبيروقراطية من جهة أخرى، وقد انتصرت هي وزوجها ومن معهما في معركة لكن الحرب لازالت متواصلة.
هذه هي خديجة العطروز… يا من يظن أنه سينقص من قيمتها بفبركة صورة إباحية، لن تدينه في النهاية إلا هو.
يوسف الطالبي / مراكش