المصطفى روض
الخطابات الصادرة عن قادة حركة حماس و المحرضة على مواجهة العدوان الصهيوني تركز على الصيغة الجهادية بتوظيف مكثف لمفاهيم منتقاة من قاموس اللاهوت. و تقدم هذه الخطابات بشكل، تبدو فيه عبارات البطولة و النصر على إسرائيل و زوالها القريب، يقينا لا مفر من وقوعه.
و كل من سمع هذه الخطابات البطولية في قنوات الجزيرة و العربية و المنار و هي تخرج من أفواه فرسان حركة حماس أو من رموز بعض الجماعات المناصرة لأطروحاتها الأصولية في المقاومة الإسلامية، يعتقد أننا قريبين من النصر الذي يتم العمل على إشهاره في وجه الرأي العام العربي و تحديدا العالم الإسلامي الممتد، بالرغم من أن حقائق المجزرة الصهيونية على أرض الواقع تحصد، يوميا، العشرات من القتلى التعاقد المصلحي” الفلسطينيين، و تدك، بواسطة الطائرات و الصواريخ و القنابل الفتاكة، السكان الفلسطينيين العزل، دور السكن، المساجد، و الكنائس و كافة البنيات التحتية غير عابئة بما يشكله عدوانها الهمجي من تحد لقوانين الشرعية الدولية لسبب بسيط هو قناعة الكيان الصهيوني بوجود المناعة الأمريكية في حمايتها من ارتكاب جرائمها و إبادتها للفلسطينيين، و من جهة أخرى شلل معسكر الأنظمة العربية التي تقدم بعضها في التطبيع معها و عجز حتى عن قطع العلاقات الدبلوماسية في أوج ارتكاب المجزرة المتواصلة، مع ارتباك شديد و تعارض حتى في النوايا الخاصة بعقد قمة عربية، و من جهة ثالثة، يقين إسرائيل التام بحالة الانقسام و الاحتقان في الساحة الفلسطينية خصوصا بين حركتي فتح و حماس منذ الانقلاب الذي قامت به هذه الأخيرة على الأولى في قطاع غزة عام 2007.
هذا يعني أن قادة الكيان الصهيوني كان لهم تقدير دقيق لميزان القوة العام، و أن قيامهم بالعدوان لن تكون له نتائج سلبية تطال حساباتهم و تقديراتهم السياسية المستمدة من رؤيتهم الدقيقة لحالة التشرذم و الانقسام في الساحة الفلسطينية و لما يمور داخل الساحة القومية العربية من انقسامات و صراعات قطرية و إقليمية و التي باتت مواقفها إزاء العدو الصهيوني مطبوعة بالاستسلام و الخنوع، و بعضها لها علاقة تطبيعية معه، فضلا عن إدراكه لعجزها عن الدخول في أي مواجهة مع العدو الإسرائيلي في حال قيامه بضربة عسكرية ضد الفلسطينيين لاعتقاده بأن “التعاقد المصلحي” الموجود بين أنظمة الاعتدال العربية و الولايات المتحدة سيحول دون أية مواجهة معه.
هذه المعطيات في التقدير السياسي الإسرائيلي، يدخل فيها كذلك عامل الضعف في بنية فصائل المقاومة الفلسطينية و في نوعية سلاحها البسيط بما فيه صواريخها التي لا يمكن ان تحدث خللا في ميزان القوة العسكري الإسرائيلي الواقعي الذي يقابله ميزان قوة مسلح هلامي و غير واقعي.
و كل النتائج المترتبة عن صواريخ المقاومة الموجهة إلى جنوب “إسرائيل” ليس لها أي أثر يذكر سوى بعض التدمير في المباني السكنية، و التي يضخم منها خطاب لاهوت المقاومة الإسلامية باعتبارها انجازات كبرى على طريق النصر فيما ميزان القوة العسكري يحصد يوميا عشرات الأرواح الفلسطينية، فضلا عما يخلفه من جرحى بالمئات، و تدمير للبنيات السكنية و الاجتماعية و الاقتصادية.
و كل هذا الدمار الإسرائيلي اليومي و ما يحدثه من آثار نفسية عند الفلسطينيين يصب في إضعاف و شل ميزان القوة الفلسطيني، الضعيف أصلا، المستند على جبهة فلسطينية داخلية منقسمة سياسيا، و على محيط عربي، و في أحسن الأحوال أن ميزته الإيجابية هي التعبيرات العفوية المعبر عنها بالمظاهرات التي لا يمكن ان تدخل كعامل قوة في ترجيح ميزان القوة أو في ممارسة ضغط يلزم الأنظمة العربية على استعادة مبادراتها القديمة في الاحتكام إلى قرارات الشرعية العربية بما فيها مقاطعة إسرائيل و تفعيل قرار الدفاع العربي المشترك، التي من واجبها القومي أن تعظ عليه بالنواجذ لحماية الشعب الفلسطيني من المجازر الصهيونية، و لكن فاقد الشيء لا يعطيه، و الدليل هو تهرب معظمها حتى من حضور قمة قطر الذي يعلم الجميع أن قراراتها ستكون أشبه بحالة كاريكاتورية تعيد إنتاج نفسها كلما نزلت إسرائيل بمجازرها على الشعب الفلسطيني.
و يضاف لهذه التقديرات السياسية الإسرائيلية، تقدير آخر هام يرتبط بعجز المنتظم الدولي و خصوصا منظمة الأمم المتحدة عن إلزام إسرائيل بقوانين الشرعية الدولية او العمل على ردعها باسم القوانين التي تنتهكها باستمرار لعلمها اليقين أن حليفتها الولايات المتحدة تحميها بالمطلق من أي عقاب دولي، و لهذا فميزان قوتها العسكري يسنده ميزان قوة سياسي أمريكي على المستوى الدولي، يكفي للتدليل على ذلك ما قاله إيهود باراك، ردا على بيان مجلس الأمن الدولي، “إن هذا المجلس لا يمكن ان يصادر حق إسرائيل في القيام بالهجوم العسكري على قطاع غزة”. و في هذا التعبير القوي استخفاف كبير، بل تحقير لأسس الشرعية الدولية التي تجسدها منظمة الأمم المتحدة، و التي باتت مع هذا التحقير و ما سبقه من ممارسات أمريكية فارغة من أية مصداقية.
الآن ما أريد ان اخلص إليه بتركيز شديد هو أن شكل المواجهة التي تديرها حركة حماس ضد العدو الصهيوني، يغلب عليها خطاب مفعم بمفردات الثقافة الثيوقراطية و اللاهوت، ما مكن من نقل القضية الفلسطينية من حقلها السياسي، المستند على الشرعية الدولية و على ثقافة التحرر الوطني، إلى الحقل الديني، و هذا ما يخدم العدوان الصهيوني لقناعته بأن التوظيف الديني في التعاطي مع قضية الشعب الفلسطيني سيحرف مسارها كقضية سياسية منذ ساعد الانتداب البريطاني الحركة الصهيونية على استعمار الأراضي الفلسطينية و الذي ترتب عنه قيام الدولة الصهيونية عام 1948.
إذن، خطاب حركة حماس في تركيزه على القضية الفلسطينية باسم الشعارات الأصولية و الجهادية، و الكلمة الأخيرة مفخخة و مدغدغة للمشاعر الدينية، بعيدا عن تراث حركة التحرر الوطني و عن مؤسستها (م.ت.ف.) التي جسدت قراراتها و برامجها الوطنية، يدخل القضية الفلسطينية في متاهات لاهوتية يفرغها من مضمونها السياسي بما هي قضية شعب استوطنت أرضه الحركة الصهيونية بقوة النار و الحديد، و بدعم من الغرب الإمبريالي. و في الوقت ذاته، جردت حماس، بخطاباتها الثيوقراطية الأصولية، الدولة الإسرائيلية من الطابع الصهيوني و هو المرتكز السياسي الذي قامت عليه و الذي بنته على مقولتها الإستراتيجية الشهيرة: “أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض”، و لذلك باتت تعادي اليهود لمجرد أنهم يهود، فالصهيونية هي حركة يرتكز فكرها السياسي على التوسع و الاستيطان و العنصرية إزاء العرب بغض النظر أن جماعات من اليهود تم التغرير بها، علما أن الصهيونية وصل تأثيرها إلى بعض الأمريكيين و الأوروبيين و حتى بعض الآسيويين و بعض العرب، فيما العديد من اليهود يقفون إلى جانب الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، و هذا ما عكسته مظاهرات باريس و مظاهرات لندن التي مشى فيها يهود كثيرون إلى جانب المتظاهرين العرب و الآسيويين و الأوروبيين لإدانة المجازر الصهيونية و المطالبة بالتدخل الدولي لإيقاف إسرائيل عند حدها.
انطلاقا من هذه المعطيات، تظهر المسافة الشاسعة بين الفكر السياسي الوطني التحرري الذي ساد في السنوات السابقة على اتفاق أوسلو كما مارسته منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي و الوحيد للشعب الفلسطيني، و بين حركة اللاهوت الأصولي المغامر الذي ظهرت حركاته بشكل قوي في السنوات الأخيرة و التي تتقاطع شعاراته و أهدافه مع شعارات منظمة القاعدة بغض النظر عن التباين في الأسلوب.