قد يستغرب المرء من سر الترابط بين كلمة درجت على ألسنة الناس ذات حمولة حقوقية كالديمقراطية ونوع من الخضر قليل مايجري على لسان الناس لقلة تداوله وتناوله أيضا. فالديمقراطية تناقش كلما أصيبت عملية التداول على المسؤولية بعطب أو كلما أردنا مناقشة ومقارنة دولة متخلفة مع أخرى متقدمة في المجال الديمقراطي رغم أن القاعدة تقول ” لا مجال للمقارنة مع وجود الفارق ” لكن لماذا هذه العلاقة بين المكونين بشكل يثير الإستغراب إن لم نقل الإستفزاز والضحك أيضا ؟
قبل التطرق للسؤال والجواب عليه حري بنا أن نقف عند شخصية باحمدان البطل الرئيسي في المقال و حتى نقف كذلك على دوره المحوري في كل ماسنسرد . رغم فرادة شخصيته فهو يجسد أمثلة كثيرة تعيش بيننا والخطير أن بعضا منها يمسك بتلاليب حياتنا اليومية يصرفها كما يشاء بدون رحمة ولاشفقة وبتواطؤ وتقاعس احيانا من الفئة الصامتة لكنها للأسف كثيرة بدون جدوى ولا أثر.
باحمدان أو حميدة إن شئنا القول رجل ذؤ بنية جسمية نحيفة عمره لاتفصله عن العقد السادس سوى أيام معدودات ينحدر من آحدى الدواوير الهامشية للمدينة، يشار في كثير من الروايات أن عمله الجمعوي في بدايته كان عونا مياوما يرابط بالمقر من أجل تسجيل المداومة في غياب القيادة والمكتب ، خبر دواليب الهيئة وشبكة علاقاتها ،تسلق بشكل غريب أدراج المسؤولية وهو الذي عاصر كل رؤسائها منذ الرعيل الأول. يعلم جيدا أن العملية صعبة في البداية لكن بدأت تنضج في مخيلته حين بدأ يقتحم جلساتها من خلال التقارير الداخلية وتهييء كؤوس الشاي وإمتلاك معلومات مهمة تتطاير من خلال هذه المجالس لتصل إلى مسامعه أو من خلال توصية بعض الرؤساء كما يتذكر أنهم كانوا يستغلون وجوده اليومي ليجعلوا منه جاسوسا يحصي أنفاس المعارضين ،باحمدان مستواه الدراسي متواضع لكن خبرته تفوق اصحاب الشواهد العليا فلقد اصبح متمرسا لدرجة أنه نفذ مخططه الجهنمي للوصول للمسؤولية بدهاء ماكر وتوظيف تقني دقيق. خطورته تتجلى أن كل المفردات التي تحمل أهدافا نبيلة أخضعها لمنطقه الإنتهازي وهو يروضها أمام كل الطاقات الفكرية والمهنية المتواجدة جلوسا أمام منصته وهو يخطب فيهم ملقنا إياها. إنها وضعية تتقابل فيها التجربة والخبرة في معترك الحياة والكفاءات المواكبة لضرورة العصر قد تبدو في حوار بل في بعض الاحيان في صراع لكن الغلبة في الأخير للشخصية الفريدة باحمدان. من يتذكرون ماضيه العادي من بواب بالمقر الى الرئيس الشرفي يقفون باندهاش كبير عاجزين عن تفكيك خيوط هذا المسار اللغز. لا تستغربوا فرغم أميته فهو رجل يجيد لعبة العصا والجزرة بل يتقن الميكيافيلية بشكل جيد. يبطش بخصومه لحد تفكيك مجموعاتهم إلى شظايا وبقايا متناثرة لاتجتمع على رأي. ولاتصلح لأي شيء ، إستطاع أن يحيط به مجموعة من الطامحين والطامعين من الطاقات والإبداعات في كل المناحي من فصاحة الخطاب إلي صانعي فنون الإستنطاق والعذاب.
مؤسسته تفاوض على شكل هيئة لكن في عمقها ضيعة تدبر بطريقة المالك والرباع و “الخدامة ” أو ما يسميه هو بشكل ساخر كلما استنفر حاشيته “فيناهوما دوك العطاشا ” ليوظفهم في ملتقى أو موقف. يكفي أن يوفر لهم وجبة غذائية ويوم عطلة مؤدى عنه. يعلم جيدا أن الضيعة لا مجال فيها لحرية الرأي فكثر من الجواسيس بين المناضلين لتصله التقارير كل ليلة ، بميكانيزمات دقيقة جد متطورة ومركزة لا مجال فيها للتهور أو الإهمال. كلما إرتفع صوت محتجا إلا وتتم تصفيته بهدوء يفوق الخيال دون ضجيج أو إثارة. يستعمل بشكل رهيب كل الآليات الديمقراطية لإسقاط خصومه. لم يستوعبوا الدرس حين سأله أحد ضحاياه أمام الجميع مطالبا إياه بتطبيق مقتضيات قانونية في المحاسبة في إطار المؤسسة. أجابه باحمدان بطريقة ماكرة وبابتسامة تخفي وراءها كثيرا من الخبث والدهاء :
“لقد تعلمت من التاريخ ومن الذين سبقوني في التسيير أن الديمقراطية تشبه لحد ما في تدبيرها الباذنجان فهو نوع من الخضر التي تترك لك حرية طبخه بالطريقة التي تريد من سلق وقلي وطهي و عادي فهو من الخضر المنفتحة على طرق عديدة لكن تبقى كلها بيد صاحب البيت والمطبخ وما على الضيف إلا أن يكتشفها من خلال الرائحة التي تصل إلى أنفه . ”
كان الجواب ساخرا وفي نفس الوقت يحمل في طياته ملمحين أساسين : الأول : الديمقراطية مجرد شعار كثيرا ما يستعمل ليس لخدمة المؤسسات بل لخدمة متناوليها ومدبريها والمشرفين عليها .
الثاني : التبسيط في المناولة الذي يضمن استمرار المقاربة ويقتل الكفاءات. ويضيع معها زمن المؤسسة وكثير من الفرص. إنها لاتضمن سوى بقاء المسؤول الأول. أما الباقي فإلى زوال.
اذن لاتستغربوا من التشبيه للديمقراطية بالباذنجان في ضيعة باحمدان فهناك من يغتالها يوميا في مزجرة بدون سكاكين. ولا حتى ذكر البسملة عليها لتصبح جيفة صالحة ليأكلها بعض الجياع مع كامل الأسف.
ذ ادريس المغلشي