جليل طليمات
رغم حجم التجاهل الإعلامي لذكرى معركة أنوال , والإقصاء لها في برامج التربية والتكوين, فانها ستظل عصية عن النسيان , فهي موشومة في الذاكرة الوطنية الجماعية , بل ,وفي الذاكرة الإنسانية كنموذج في مقاومة الاستعمار, وكرمز للبطولة والبسالة في مواجهة جحافل المستعمر, وهو ما عبر عنه الزعيم الفيتنامي “هوشي مينه” بقوله :”إن الدروس المستفادة من حرب الريف قد أظهرت بصفة جلية أن باستطاعة شعب صغير هزيمة جيش عصري ومنظم عندما يحمل السلاح ويدافع عن حريته وحقوقه , فالريفيون استحقوا عن جدارة أن يقال عنهم إنهم أعطوا هذا الدرس للعالم أجمع ” .
نعم ,لقد قضى عنف التحالف الاستعماري ,الفرنسي الإسباني على ثورة الريف ,ولكن “بقيت مادتها المتفتتة ترسل إشعاعها عبر تاريخ المغرب”, كما كتب المؤرخ جيرمان عياش ., فقد شكلت , لاحقا ,مرجعا لكفاح جيش التحرير والمقاومة بالجنوب المغربي,ومرشدا ملهما للحركة الوطنية الحديثة , يقول الزعيم الوطني الديمقراطي الراحل عبد الرحيم بوعبيد في هذا السياق :”…بعد هذه المرحلة,مرحلة الجهاد المسلح التي استمرت إلى 1935, جاءت مرحلة الكفاح السياسي مستمدة قواها وعملها المتواصل من الدروس القيمة التي خلفتها الريف..”,معتبرا ثورة بنعبد الكريم “أكبر مدرسة للوطنية” ( ع الرحيم بوعبيد_ الشباب المغربي أمام مسؤولياته _ ص 36) . وعليه فإ ن استراتيجة ثورة الريف لم تكن محلية , مناطقية , وإنما محطة انتقالية مؤطرة برؤية إستراتيجية وطنية لمقاومة المستعمر في كل أرض الوطن المغربي , ذلك ما عبر عنه بنعبد الكريم الخطابي بوضوح , وهو ينفي أي نزوع ” للاستقلال المناطقي” أو “تمردي” , يقول : ” لم يكن غرضنا التشويش على المخزن (… ) ولكن قصدنا الأهم هو الدفاع عن وطننا العزيز الذي كان أسلافنا مدافعين عنه”( انظر ملف مجلة زمان العدد 45 )
كما انطلق الخطابي ,أيضا , في رؤيته تلك لمقاومة الاستعمار الإسباني من اقتناع عميق بأن أية حركة مقاومة محكوم عليها بالفشل السريع إذا لم تتمكن من صياغة أسس وحدة تذوب فيها النزعات القبلية ,وتنحل ضمنها العقلية المحلية الضيقة , وبحكم مؤهلاته الذاتية, نجح إلى حد بعيد في توحيد صفوف القبائل المتصارعة ,وإقناعها بالانخراط في معركة التحرير كجسم واحد. وبفعل ذلك حققت ثورة الريف انتصارات كبرى كانت معركة أنوال عنوانها الخالد , ففي 21 من يوليو 1921 حاصرت قوات محمد بن عبد الكريم الخطابي قوات الجنرال الاسباني سلفستر بمركز أنوال ,وكبدتها شر هزيمة ,أفدح الخسائر في الأرواح والعتاد ..
ضمن تلك الرؤية الوطنية المؤطرة لمقاومة المستعمر في الريف المغربي فإن تأسيس “جمهورية الريف” لم يكن , كما يذهب البعض إلى ذلك ,بخلفية انفصالية مناطقية أو بنزعة هوياتية , فقائد ثورة الريف يعتبر أن تقرير المصير هو حق الشعب المغربي لا ” الشعب الريفي”,وظل لسانه ناطقا باسم طموح وتطلعا ت جميع المغاربة إلى الاستقلال طيلة عشرينيات القرن الماضي وما بعدها , ففي 1925 صرح لأحد الصحفيين بأن شروط السلام مع اسبانيا تتمثل في “انسحاب جميع الجنود الإسبانيين من المغرب إلى حدود الأطلنطي حتى تخوم الحدود الشرقية (… ) , ونحن نطالب ذلك باسم الأمة المغرية بأسرها” ( أنظر كتاب ” تنظيم الحماية بالمغرب _ خير الدين فارس _ ص 436 )
وقد تميزت ثورة الريف, إضافة لما سبق, باستيعاب عقلاني وواقعي للظاهرة الاستعمارية لا كظاهرة ” صليبية” تقتضي «جهادا دينيا”..إذ ميز بنعبد الكريم بين حرب التحرير وبين الجهاد , يقول في هذا الصدد ” لم نعلن الجهاد لأن الزمن ليس العصور الوسطى أو الحروب الصليبية . إننا نرغب ببساطة أن نعيش مستقلين ‘
في ضوء ذلك, فإن جمهورية الريف التي أثارت الكثير من الجدل والتوجس من ” أهل الريف” ! ,وخلفت تمثلات خاطئة حولها لم تكن ذات أهداف محلية وانفصالية, بل كانت جوابا منطقيا وموضوعيا على سلبية ظاهرة التشتت القبلي, وعلى حاجة ذاتية لمقاومة المستعمر, و بذلك حققت الجمهورية هدفها ” الانتقالي” حيث توحدت صفوف القبائل وساد النظام والقانون ,وانفتحت آفاق لمقاومة مسلحة أشمل في أ رجاء الوطن, وذلك ما يفسر لماذا شكلت ثورة الريف شوكة في حلق الاستعمارين الاسباني والفرنسي , فقد أصبحت ,كما عبرعن ذلك ليوطي ” نقطة جذب ليس للمستقلين فحسب ,ولكن لكل تلك العناصر المغربية خصوصا الشباب الذين توسعت آفاقهم وتطورت عندهم مسألة رفض الأجانب” .
إن نعث جمهورية الريف بالانفصال ,هو في الأصل دعاية استعمارية فرنسية كان هدفها التأليب ضد ثورة بنعبد الكريم الخطابي التي لم تكن ,كما تثبت ذلك العديد من الدراسات التاريخية , سوى محطة ضمن سيرورة النضال الوطني من أجل استقلال المغرب ووحدته . .
فلنصحح التمثلات الخاطئة والمجحفة في حق ثورة الريف,وفي حق مواطنينا ومواطناتنا في هذه المنطقة الشامخة.., الذين لا يرضون عن الكرامة بديلا , كما تجسد ذلك في حراكهم الاجتماعي دفاعا عن العدالة المجالية, والتنمية المتوازنة, والعيش في وطن يضمن الحق للجميع في الخبز والحرية والكرامة..،ولنجعل منها صلة وصل خلاقة بين الماضي والحاضر.