كنت قد استمعت في إحدى الندوات إلى عرض أحد الأساتذة بجامعة فاس قبل ثلاثة عقود قارن فيه بين “الطب النبوي” وطب أبوقراط وجالينوس وابن سيناء. وكانت المقارنة تندرج في إطار الإشكال الواسع الخاص بالعلاقة بين “العقل والنقل” و”الفلسفة والدين”.
كان العرض في تاريخ الأفكار، إذ عندما وضع الطب الحديث أركانه مع كلود بيرنار واكتشافات باستور وغيرهما (كما يدعي الفرنسيون)، لم يعد الطب النبوي حاضرا في تاريخ الأفكار العلمية واختفى ابن سينا من الجامعات الأوروبية حيث ظل حاضرا إلى حدود القرن السادس عشر. لم نعد نملك صورة واضحة عن “الطب النبوي” وعن أهميته النفسية والوجدانية. والنتيجة هي أن الطب النبوي قد اختزل في مراحل الانحطاط في طب الأعشاب وبركة الأولياء والرقية الشرعية، وهو الطب الذي لا يزال سائدا إلى اليوم في الأوساط الشعبية. وهكذا، انتقلنا من الطب النبوي كعلاج روحاني خالص إلى الشعوذة والخرافات وبيع السموم والأوهام.
واليوم، توجد عوامل شتى دفعت إلى إحياء طب العشابين، ومنها أن استعمال الأعشاب معروف في الطبخ وفي التخفيف من بعض الأعراض المرضية الخفيفة؛ ويوجد حي “العشابين” في أغلب الحواضر الكبرى وعرفت عائلات عريقة بممارسة التداوي بالأعشاب. ولا تزال هذه الممارسات حاضرة بقوة في البوادي وفي الأسواق الأسبوعية وتشكل سوقا تجارية رائجة.
هنا آتي إلى لبِّ الموضوع وإلى الخوف من إعادة الاعتبار إلى ثقافة الانحطاط التي نظن أننا شرعنا في التخلص منها:
أبدأ بنقاط قوة الدكتور الفايد، رغم هذا التخوف الذي يظهر لدى أغلب من ينتقده:
عندما يربط الدكتور محمد الفايد بين التطبيب الناجع والتغذية السليمة واستعمال الأعشاب المناسبة، فهو يهاجم طب العقاقير الكيميائية ويعوضه بطب النباتات الطبيعية. قد ندخل هذا فيما يعرف بالطب الرخو médecine douce إذا ما جازت الترجمة، لأن الهدف ليس هو الهجوم العنيف على موطن الداء كما تفعل العقاقير، وإنما هو الدفاع عن الجسد والتخفيف من الآلام الشديدة. يوهم المريض بالشفاء بواسطة أعشاب ذات مفعول غير معلوم علميا، ويشفى المريض ما دام المفعول الوهمي قد أدى الغرض effet placebo.
أتي بعد ذلك إلى نقطة ضعفه:
إذا ما كانت الاتجاهات الطبية والصيدلانية البديلة قد تصدّت لطب العقاقير الكيميائية وعوضتها بالأعشاب، فإن هذا التوجه الجديد يخضع لنفس بروتوكولات الاختبار والتجربة والتصحيح والإبطال، كما هو معروف في البحث العلمي عامة. ذلك أن ممارسة البحث العلمي ممارسة جماعية داخل مختبرات البحث العلمي وتندرج ضمن مشاريع فكرية تنخرط فيها الجماعة العلمية وتصادق عليها المؤسسات الجامعية وتخضع لمسطرة الاعتماد وتعقد مؤتمرات وطنية ودولية في الموضوع وتنشر النتائج في المجلات العلمية.
لا أظن أن الدكتور محمد الفايد يجهل هذه الأمور، ولا أدعي أن له حسابات خاصة مع زملائه. ولذلك لا شيء يمنع صاحب المبادرة إلى التغذية السليمة من أن يتحمل شرف إدارة المشروع داخل مؤسسته أو مؤسسة أخرى وأن ينسق العمل بين أعضاء المختبر أو فريق البحث وأن يستفيد من زملائه. ولا شيء يمنع أعضاء فريق البحث من أن يساهموا بأفكارهم وتجاربهم المخبرية في نجاح المشروع المشترك.
لماذا أقول هذا؟
لأنه لا توجد نجومية في البحث العلمي ولا أبطال عظام، بما أن البحث شأن جماعي، كما أن الباحثين يشاركون بأفكارهم، حتى ولو أن صاحب المشروع هو الذي ينشر الأبحاث باسمه.
ما هو الخطر؟
الخطر هو أن يتحول العالم إلى مشعوذ إذا لم يكن قادرا على الدفاع عن أفكاره بالوقائع العلمية الثابتة وإذا عجز عن مواجهة زملائه في المجال ومقارعة الحجة بالحجة وإذا لم يحترم مبدأ قابلية الإبطال أوالتكذيب (مع كارل بوبر) لمراجعة المسلمات التي انطلق منها في كل مرحلة من مراحل الإنجاز.
يصبح خطر الشعوذة كبيرا كلما اكتسب العالم أنصاراً من خارج دائرة التخصص وتحول إلى نجم إعلامي. وأذكر أن أحد مؤرخي العلوم قال يوما (أظنه غاستون باشلار) :
يقطع العالم الخلاق مرحلتين من حياته العلمية: يعرف العالم مرحلة النبوغ الأولى في النصف الأول من حياته بعد أن يكتشف نظرية جديدة غير مسبوقة تتكلل عامة بجائزة نوبل ويعرف مرحلة ثانية وهي مرحلة المجد والهالة وكذلك في نفس الوقت مرحلة الاجترار والإشراقات الفكرية والاعتداد بالذات إلى حد الابتذال. ينصحنا المؤرخ بأن نثق في العالم في مرحلته الأولى حتى ولو اعترض عليه كل العلماء، كما يجب علينا أن نحترس من نفس العالم في المرحلة الثانية من حياته لأنه يكتفي آنذاك بالاجترار وتعميم معطيات على مجالات لا يعرفها ويدخل في نقاشات ثقافية يجهل مناخها الأصلي.
الحمد لله أن هذه الصورة القاتمة استثناء وليست هي القاعدة. وهذا لا يصدق حرفيا على الدكتور محمد الفايد، فلا أحد يشك في مؤهلاته العلمية، وهذا شيء طبيعي، فهو ينتمي إلى الجسم الجامعي، ونفترض عادةً أن من ينتمي إلى سلك الجامعة ضليع في مجال تخصصه. والدليل على ذلك أنه نشر أبحاثا حظيت بمكانتها العلمية بين المختصين إبّان نشرها، ولو أن هؤلاء الباحثين مؤهلون أكثر مني ومن أي شخص آخر لتقويم نتائجها.
الدكتور محمد الفايد باحث كبير، ربما ولج المرحلة الثانية من حياته، ولو أنني لا أظن ذلك. بل أظن أنه اكتشف أهمية الدراسات الثقافية في نقل العلم وتلقيه.
وغالبا ما يكتشف الباحثون ذواتهم الثقافية بعد الشعور بالفراغ الروحي والثقافي بحكم دقة المجالات العلمية التي يشتغلون عليها.
ربما تعرض الدكتور محمد الفايد لنفس الصدمة التي تعرض لها أغلب من تلقى دراساته العليا بالدول الغربية، وهي الصدمة الثقافية le choc culturel أمام حجم التقدم الذي يعرفه الغرب في سائر التخصصات.
يواجه الباحثون هذه الصدمة بطرق مختلفة:
قد يندمج الباحث في الجماعات العلمية الغربية أو الوطنية ويواصل التعاون مع زملائه الغربيين، فتكون الصدمة عاملا إيجابيا تساعده على الانفتاح والتنوير ومواصلة نفس قواعد البحث العلمي في بلاده الأصلية.
بالمقابل، قد يعتبر الباحث الذي يشعر بالفراغ الروحي أن من ينبهر بالغرب يتخلى عمليا عن ثقافته وتراثه ويرمي بنفسه في أحضان مختبرات البحث الغربية. ولذا يختار طريقا جديدة تختلف في رأيه عن موقف الاستلاب بالعلم الغربي. هذه الطريق ممكنة ويملك الباحث حرية الفكر والبحث التي تفتح أفاقا فكرية واعدة:
النتيجة: أدت الصدمة الثقافية بالغرب إلى انتشار فكرة عامة تدعونا إلى أن نعيد التفكير في النفس والحياة والمجتمع والصحة والاقتصاد والفكر والفلسفة من منظور ثقافي مختلف عن المنظور الغربي. ما هي نقاط قوة هذا المنظور؟ وماهي نقاط ضعفه؟
من الممكن جدا أن نكتب في علم النفس من موقع يعيد النظر إلى مفهوم النفس في التراث الإسلامي بعد انتقاد تصورات التحليل النفسي وثقافته النمساوية أو التلمودية. من الجائز أن ننتقد الفلسفة والثقافة الغربيتين اعتمادا على إدوارد سعيد وهومي بابا وسمير أمين. هل يجوز لنا أن ننتقد الطب نفسه وبروتوكولات العلاج في الطب ذاته من نفس المرجعيات الثقافية؟
هذا ممكن إذا ما استطعنا إعداد مدرسة طبية بديلة في مجالات مخصوصة في إطار جماعة علمية.
ماذا يبرّرُ ذلك؟
قامت الجامعات النمساوية والسويسرية بالانفتاح على الطب الصيني وعلى الوخز بالإبر واستعمال الأعشاب، ولكن تحت مراقبة الأطباء الجامعيين. يحضر أساتذة يدرسون بجامعات الطب التقليدي بالصين للمشاركة في هذه المواضيع في ألمانيا والنمسا، وقد نشرت اجتهادات فكرية كثيرة بجامعة فيينا (Fritz Wallner, Vincent Shen, Lan Fengli) تحاول الاستفادة من فكرة توماس كون Thomas Kuhn حول كيفية الانتقال من باراديكم العلم العادي إلى باراديكم جديد يشكك في الأسس التي قام عليها العلم التقليدي. في الحقيقة لا يتسع المجال لعرض آراء بعض الأطباء الباحثين الذين يريدون استثمار مصطلح توماس كون “تغيير الباراديغم” Paradigmenwechsel في الطب، كما كان مألوفاً في الفيزياء، نتيجة الوعي بوجود أزمة؟ ذكر هانزيل Günther S. Hanzel، وهو طبيب جراح في تكوينه العام كيف أننا الطبيب يعرف كيفية التشخيص بكل دقة، لكنه يكتفي بعلاج الأعراض و لا يبحث في الأسباب و الأسباب، وأخصُّ بالذِّكر الأمراض المزمنة أو الآلام التي لا نعلم لها سببا مضبوطا. غير أن الأطباء لا يقولون إنه يوجد طب جديد بديل للطب الحديث كما هو معروف علميا، وهو طب التداوي بالأعشاب أو طب بركة الأولياء أو مستحضرات الطب التقليدي. ليس العلم هو الذي فشل بل الفاشل هو فن إدارة مجال البحث الذي اعترض على الأخذ بأفكار جديدةٍ غير معروفة في الطب الحديث. يداوي الطبيب من الأمراض ولا يعلم ما هو المرض. وذكر هانزيل كيف قام تعريف المرض في ألمانيا قبل مائة وخمسين سنة لدى فيرشوو Virchow على فكرة علم الخلايا المرضي، أي على التغيرات المورفولوجية التي تتعرض لها بنية الخلايا والأنسجة.
يحق لنا بطبيعة الحال أن نلقي نظرة ثقافية على علم التغذية والأمراض والعلاج. ولكن هذا يتطلب الحفاظ على مطلب الموضوعية العلمية وعلى وجود قوانين مطردة بين الظواهر. فالطب علم طبيعي وعلم إنساني و الطب أكثر من ذلك، أكثر من أن يظل مجرد علم طبيعي بل هو تخصص حواري ويعتمد على التداخل بين التخصصات، كما يرى بعض الباحثين. (Douwe Tiemersma : Konstruktivität und Alltagswirklichkeit in der Medizin, in : Wissenschaft und Alltag : Wien 1995, 219)
يحق لنا أن نقدم أفكارا غريبة ووصفات غير مألوفة، شريطة أن يكون المتلقي الأول هم أهل الاختصاص من الأطباء وعلماء التغذية والحياة وليس عامة الناس عبر وسائل الإعلام. حقيقة أنه لا يحق لنا التدخل في وسائل الإعلام ولا يحق لنا محاربة حرية الفكر والتعبير، ولكن حريتي تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين وحق الأخرين في تلقي العلاج الناجع في الوقت المناسب دون التأثير السلبي عليهم، كما تنتهي حريتي عندما تؤدي أفكاري إلى تسفيه جهود أجيال من الباحثين في مجالات تخصصهم المختلفة.
عز العرب لحكيم بناني