المبارك الگنوني
درجت على سنة حميدة كل سنة أن استحضر آثار الدرر النفيسة التي تركها المرحوم الأستاذ النحرير سيدي “”الحسين حسيني””.
ونزولا عند رغبة عدد كبير من الأصدقاء المتقاعدين خاصة، سأعيد التطرق الى بعض من جوانب حياة هذا الهرم والزاخرة بالفضائل والمعاني والحقائق التاريخية من السيرة الذاتية للمرحوم ،رغم أنني لست مؤهلا لافكريا ولا أدبيا ولا علميا لألامس جانبا من جوانب حياة هذا اللألمعي المليئة بالمعاني والأقداس.صحيح أن حياة هذا الطود حبلى جدا بالمفاخروالمنجزات التي سجلها التاريخ بمداد النبل والوفاء.أستسمح عائلته وأصدقائه لأروي قصة بطولية يجهلها جل أقاربه وأصدقائه غيرت حياة هذا الرجل اللودعي الأريب.ولد الأستاذ الحسيني في أواسط الثلاثينات بمدينة الصويرة.كان أبوه حارسا بالسجن المدني بنفس المدينة،بعد الكتاب والتعليم الإبتدائي وممارسته للملاكمة انتقل الى مدرسة “ابن يوسف” بمراكش وظل يمارس الملاكمة التي تألق فيها.لما حلت عطلة ربيع 1953، عاد الشاب الى الصويرة لزيارة العائلة. كان رحمه الله مواظبا على صلاة الصبح بمسجد” الباخر”القريب من منزله.كان من عادة بعض العميان الجلوس قبالة باب المسجد .رئيسهم ماسك صحنا من قصديريضع فيه المحسنون بعض الفرنكات تحدت رنينا يرد عليها العميان بالدعاء الصالح.في وقت خروج المصلين من المسجد وجدوا ثلاثة جنود فرنسيين في حالة سكر طافح،أحدهم يتبول في الصحن الذي بين يداي الأعمى والمخصص للصدقة.هرع المصلون خوفا نحو منازلهم.صُدِم الشاب الحسيني صاحب العضلات المفتولة من هذا المنظر الهمجي المقززفلكم الجندي لكمة هشمت أنفه وسقط ،تدخل الجنديان لكن الرجل الشهم أشبعهما لكما حتى سقطا أرضا.ثلاثة جنود وسط بركة من الدماء،هذا هوالمشهد الختامي الذي ظل راسخا في مخيلة الشاب الذي غادر المدينة قبل أن ينتشر الخبر.كان سكان حي ” الباخر”في مستوى الحدث حيت أكدوا جميعهم أن الجنود تشاجروا بعد أن لعبت الخمر برؤوسهم.أما الشاب الشهم فقد مكث في مراكش ينهل العلم والمعرفة حتى أصبح معلما و عاد لزيارة العائلة لما استقل المغرب. تدرّج رحمه الله في جميع أسلاك التعليم: معلم بالإبتداي،ثم أستاذ بالإعدادي والثانوي.في سنة 1967 درّس بمدرسة المعلمين ” النخيل” بمراكش.بعدها عيّن مديرا لتسيير ثانوية بورززات،ثم انتقل إلى أيت أورير،بعدها انتقل إلى مراكش ليعمل كمدير بإعدادية ” الرحالي الفاروق” حتى وفاته. كان رحمه الله مناضلا بحزب الإستقلال. بدأ حياته الرياضية كملاكم ثم انتقل إلى التسيير الرياضي حيث أسس فريق “الحسنية” بدوار العسكر في بداية الستينات ثم انتقل إلى تسيير فريق “مولودية مراكش” ثم الكمال المراكشي .كان رحمه الله أستاذي بمدرسة المعلمين بمراكش و كان يؤمن أن السياسة هي التعاقد على مصالح الشعب لا على مصالح الأفراد.لقد طبق هذ النظرية على نفسه حيث لم يجعل يوما حزب الإستقلال الذي كان عضوا به مطية للوصول الى مصالحه الخاصة،وحجتي أنه وبعد أربعين سنة من النضال ومهنة التدريس، تقاعد وهو لا يملك سكنا يأوي عائلته،لكنه بالمقابل حصَّن أبنائه بالعلم والأخلاق الفاضلة. كان الأستاذ الحسيني يحب اللغة العربية الفصحى حتى النخاع يدافع عنها بحماس وبسالة كما كان يقول لكل للمشككين: “اذا فرطنا في اللغة العربية، فقد فرطنا في هويتنا وحضارتنا وفتحنا بابا للاستعمار الجديد.” عندما يكون أحدُهم مسترسلاً في الحديث، ثم يسوق مِن خلال حديثه عبارةً أو أكثرَ باللُّغة الفرنسية دونما حاجة لذلك،يوقفه الحسيني رحمه الله،ويترجم الجملة بعربية فصيحة ،ثم يصب جام غضبه ملقنا له درسا لن ينساه أبدا قائلا:”أنت وأمثالك هم مَن يصحُّ أن يُطلَق عليهم اسم “المتأجنِبون”؛ أي: أدعياء الأجنبية.هؤلاء قوم يهرفون بما لا يعرفون عن لغة غيرهم و ينقلون مزاعم الناس عن لغتهم الأصلية كأنهم رجع الصدى أو كأنهم في الماء القذى.كان الأستاذ الحسيني حريصا جدا على أن يتحدث باللغة الفصحى مع أولاده.في أوقات فراغه كان يحب لعب الشطرنج أوالورق”التجاري”.كان لي الشرف أنني كنت من المدعويين الي بيته “بالحارة “في إحدى عمارات الشرطة سنة 1974،وكان من بين الحاضرين: مولاي احمد الإدريسي نبيل ،مولاي ابراهيم الدريدي،مولاي إبراهيم الحاري،عبد اللطيف الحنبلي( رحمهم الله جميعا ) والأستاذ الجليل سيدي عمرفهمي أطال لله في عمره والشرايبي المديرالسابق لإبي العباس السبتي(رحمه الله).بعد تناول العشاء،بدأت المواجهات في لعبة “التجاري”.اشتد وطيس المعركة،ثم سمع بكاء طفلة وسط سكون الليل،امتد البكاء لدقائق نادى الأستاذ الحسيني ابنته الكبرى التي كانت تبلغ تسع سنوات فحضرت في الحين.خاطبها الأستاذ الحسيني قائلا:”اذهبي عند أختك الصغيرة وقولي لها كفاك بكائا”، ضحك المدعوون حتى استلقوا على ظهورهم.
رحم الله الأستاذ الحسيني وجميع أصدقائه