إدريس الأندلسي
قررت كل مكونات هويتي أن اواظب على زيارة مراكش الحمراء. يسكنني تاريخ مدينتي حتى النخاع، كما يسكن كل من شرب مياه ” خطاراتها ” و سواقيها و تلك المسالك الرقراقة بماء طيب المذاق عبر الجبال و السهول ليصل إلى أرض طيبة إلى يومنا هذا.
كانت هذه القنوات التقليدية تتوزع من “معيدة ” إلى أخرى . كانت رقراقة في أغلب حومات البهجة و مصاحبة لأصوات ” للا طيبيبت” و اهازيج أبناء الحومة .
وصلت إلى الحمراء فاستقبلتني عاصفة من ضجيج الدراجات النارية. زادت حرارة الإستقبال من خلال فوضى مرورية لن تسهم في إنجاح التظاهرات الرياضية العالمية المقبلة. كلما تقدم المسير من محطة القطار، ازداد معه ازدحام سببه أوراش إصلاح طرق لا تنتهي. ذكرني منظر تغيير ارصفة، لا زالت صالحة، بأخرى أقل جودة، بكل الاوراش التي عرفتها مراكش قبل و بعد قمة البيئة ” كوب 22 ” سنة 2016، و الاجتماعات السنوية للمؤسسات المالية الدولية سنة 2023 . و رغم كل الجهود المالية التي بذلت، فتحت أوراش ” الطروطوارات” مرة أخرى لتضيف عرضا متواضعا لأكبر شوارع هذه المدينة التي تغنينا، منذ الطفولة ” بأنها وريدة بين النخيل “. فأصبحت غريبة بين من لم يعرفونها حين كانت عروسا بين مئات آلاف أشجار النخيل. و هذا الوضع يبعث على الحسرة.
حاولت أن لا أبدو متشائما ،و أنا أصر على المشي حسب ما تحمله صور جميلة من الماضي. وصلت إلى باب دكالة، حيث كان بها ميدان، محاذي لسور المدينة، ، شكل إلى جانب ميدان ” باب الجديد”، مصنعا للمواهب الكروية التي امتعت جماهير فرق الكوكب و لاسام و المولودية و النجم و السلام و مغرب باب إيلان، و الأشغال العمومية و غيرها من فرق صناع البهجة الرياضية. تغيرت باب دكالة إلى الأسوأ. جوانب سور المدينة تئن تحت وطأة الازبال، فوضى تعم محيط محطة الحافلات، و دخان و ضجيج يملأن مكانا كان يستقبل عشاق التبوردة، و حلقات الطرب الشعبي و الشرقي و فنون الحكواتيين و فرق هوارة، كل يوم جمعة. و كان ميدان باب دكالة يستقبل سنويا ” سيرك عمار” و كنا نسمع، طوال أيام هذه الفرجة، زئير الأسود و و قبع الفيل، و نرى فنون كثيرة يتقنها البهلوان و المغامرون من دول كثيرة. تشعر و أنت تمر بباب دكالة كأنها تعرضت لاحتلال متخلف. و شعرت بحسرة كبيرة. و وصلتني أخبار عن تفويت جزء من هذا الميدان إلى أحد المنتخبين قبل سنوات لإنجاز مشروع مهم للمدينة . و لا زالت باب دكالة على حالها بعد أن قاومت الزمن الاستعماري حين كانت ذات هيبة.
يتكلم أهل مراكش عن الفساد التدبيري بشكل كبير، و يعطون الأمثلة بمن اغتنوا منذ أن اكتشفوا مزايا الانتخابات. انتشر وضع احدى مسؤولات مجلس المدينة رهن الاعتقال، هذه الأيام ، كانتشار النار في الهشيم بسبب تهمة تتعلق بتلقي رشوة . و لأن أهل مراكش ذوى ذاكرة حية، فهم لا ينتظرون حسم أمر الفساد بين عشية و ضحاها. تمت إدانة مسؤولين سابقين منذ سنين و لا زالوا ينعمون بكل حقوقهم و حريتهم لحد الآن ، وقدت تأتي الأيام المقبلة بالخبر اليقين . كفرت منذ سنين بالديمقراطية المحلية في شكلها الحالي و تعجبت كيف يصل البعض إلى مراكز القرار في غياب الكثير من الشروط الموضوعية. و في إنتظار ذلك، شعرت بحسرة شديدة.
حاولت الانعتاق من مناظر تبعث على الحسرة، فحاصرتني صور على شبكات التواصل الإجتماعي تهم منتزه غابة الشباب. و جب استحضار ذاكرة المكان من خلال تلك الحملة الشبابية الكبيرة سنة 1956 و التي مكنت من زراعة آلاف شجيرات الزيتون. و قد اهتمت مؤسسة محمد السادس للبيئة، التي ترؤسها صاحبة السمو الملكي الأميرة للا حسناء، بتحويل هذا الفضاء إلى ” منتزه الزيتون”. و لكن السلطات المحلية و المجلس لم تتبع إنجاز مهام المتابعة و الصيانة. فتحول جزء من المنتزه إلى مرتع للفوضى التي خلفت مطرحا للنفايات المكونة أساسا من قارورات بلاستيكية و زجاجية تركها بعض ” أصحاب النشاط و السكر” . و اشعرني هذا المنظر بحسرة شديدة.
و يظل الأمل في غد أفضل لمراكش ممكنا. و يظل شرط محاربة الفساد و ضعف التكوين و المهنية العالية هو العامل الأساسي للدفع بإطارات المدينة إلى الانخراط في العمل السياسي داخل الجماعات الترابية. و تزيد درجة الحسرة حين ترى شبكات عائلية و أخرى تسيطر على المجال هي صاحبة الخبرة في صنع الأغلبية. و تزيد الحسرة حجما و ستزيد، ما دام إيقاع تنزيل ” ربط المسؤولية بالمحاسبة” سلحفاتيا. لا زالت ساحة جامع الفنا تبحث عن منقذ من فوضى يساهم في خلقها ” الكوتشي ” و التاكسي و الدراجة النارية. لا زالت محطة طرقية عصرية مكلفة استثماريا، تتجه لانخراطها في لائحة المشاريع المسكونة بالأشباح، أو ما يسمى ،لدى الإقتصاديين، بالفيلة البيضاء. و لا زال قطع المسافة بين مداخل مراكش و مركزها يتطلب صبرا و ساعات إنتظار. أزور مدنا، تحكم في تطوير بنياتها مسؤول متمكن، و أصبحت قادرة على التطور. و من حقنا أن لا نحترم من لا يحترم مراكش التي كانت عاصمة لإمبراطوريتين كبيرتين امتدتا جنوبا إلى نهر السنغال و شمالا إلى الأندلس.