محمد الحبيب طالب
توالت الفواجع بفقدان رفاق أعزاء ، الواحد تلو الأخر ، وكأنهم تواعدوا على لقاء في العلا ، ذهبوا إليه ، وبنفس الانضباطية التي تعودوا عليها في حياتهم النضالية . ولشدة الكمد و الحزن في كل فراق ، أشعر في متوالية ” العدم ” هذه ، وكأني أفرغت جميع شحناتي العاطفية والوجدانية ، وما بقي لي سوى جسد فارغ ينتظر يومه الآتي . وبكل صدق ، فارقت في الماضي أحباء ، جمعيهم كانوا هم أنا ” ، و ” أنا هم ” ، غير أن الأحلام الكبرى التي حملها جيلنا ، وهي تشرئب لمناطحة السماء ، وتباشيرها العربية والكونية كانت واعدة ، كانت أيضا ، وفي جميع الماسي ، تعوضنا وتخفف عنا آلام الفراق . أما وأن تأتي متلاحقة في زمن الشيخوخة الفردية ، وفي وضع جفت فيه الأحلام الإنسانية الكونية ، فإن لفراق الأحباب طعما آخر يسائل الوجود والمعنى ، ولايجد مني سوى الصمت الدامي الغائر في النفس . 6 كوكبة من المناضلين الفرسان غادرتنا على التوالي وإلى الأبد ، أسماؤهم نجوم في ذاكرتنا الجمعية ، الرفاق ( حسن الصوابني وعبد الواحد بلكبير ، ورشيد نزهري والسي محمد بلمقدم وحسن السوسي و السي أحمد طليمات ) رموز لجيل تكبد في السجون والحياة النضالية اليومية قساوة أحلامه ، لأنها كانت أحلام يقظة واعية ، فاعلة ومنتجة ، تزرع الأمل في نفوس المضطهدين ، وتستنهض هممهم ضد كل أشكال الدونية الإنسانية وهم جميعا أبناء امتداد الحركة الوطنية التقدمية لمدرسة منظمة 23 مارس ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي ، وهي مدرسة بحق و عن جدارة واستحقاق . وعندما أفكر في كل واحد منهم ، وفي من رحلوا قبلهم ، أكتشف أن ما كان يجمعهم في الحقيقة كان أكبر وأوسع من العنوان الماركسي – اللينيني الذي عرفوا به وانتسبوا إليه وشربوا جمعيا رحيقه ، لكنهم لم يكونوا معلبو الفكر لا يتحدثون إلا بالعنعنة التقليدية ، أوبالقياس على نصوص شاهدة لهم على كل صغيرة وكبيرة . كلا ، كان وازعهم الجمعي بالأحرى والأولى ، تطلعهم الوجداني الجماعي إلى الخير و الحق و الجمال و الحرية . و الأخلاق الإنسانية على وجه الخصوص لشموليتها كانت حافزهم الوجداني المشترك . الممارسة السياسية عندهم ، من رحلوا ومن لا يزالون على قيد الحياة ، تربية ثقافية على تمثل القيم الإنسانية العليا . السياسة بلا أخلاق تنحط إلى تكتكة ومناورات وتلاعب بالمصالح الجمعية ، وتنطوي بالضرورة على الاستغلال والظلم والاستبداد . 9 11 وهذا ما يفسر في نظري الظاهرة التالية في أن جل مناضلي المنظمة في السابق يشعرون في الراهن بحالة اغتراب عامة ، لما اعترى عالم اليوم من تحولات قيمية كبرى أغرقت في ” تبضيع ” العلاقات الاجتماعية بين البشر ، فعممت الاستيلاب الفرداني ” المبضع ” إذا جاز القول ، وكان عالم اليوم يطوي باغتراباته البيئة الاجتماعية التي استأنسوها وناضلوا في مخاضها الحابل بأحلامهم الواعدة . أما الجانب الثاني لهذه الظاهرة ، أن العديد من هؤلاء المناضلين ، عندما تحرر نسيبا من العمل السياسي اء هذا الاغتراب العام ، أظهر مواهب كانت على الأغلب متوارية لانغماسهم المطلق معمل الحزبي اليومي . وليس صدفة ، أن تتجلى هذه المواهب في الفن والشعر والراوية وفي الكتابة الثقافية عامة والخدمات الاجتماعية لمنظمات المجتمع المدني . فهذه الأشكال التعبيرية جمعية تفصح عن الدوافع الأصلية العميقة لما كان عليه التزامهم السياسي – الحزبي ، ولذلك أجملت القول ، أنها كانت مدرسة عن جدارة واستحقاق . 2/4 ما كنت أسعى إلى تقديم تحليل لما كان عليه هذا الجيل ، ولما عليه اليوم . وإنما كان مسعاي أن أقرب ، قدر المستطاع ، بكلمات محسوسة ، مجمل هذه التجربة النضالية لجيل تطلع إلى الأفق الإنساني البعيد ، ومارس السياسة ” ثقافة وتربية ” ، ومنه هذه الكوكبة الرائعة التي رحلت عن مدارنا اليومي ، وكانت بلا مبالغة فرسان هذا المشروع الذي لم يستكمل بعد . 9 وليست لي رغبة على الاطلاق في هذه اللحظة الوجودية الحزينة الغائصة في مشاعر کالیتم ، أن أمشي وراء نعوشهم على نفس التقليد المعروف على طريقة ” اذكروا موتاكم بخير ” ، فليس لي من دروس أقدمها للناس من حياتهم وعلى أية صورة جميلة كانت … لأنني في هذا العمر الذي بلغته على الأقل ، أدرك تماما ، أن ما ضاع ضاع ، ويا هول ما ضاع ! و لا رجعة له . وأن مرارة الحياة وسخريتها لا تأبه بأي درس مهما أصاب ، إلا ما تفرضه هي من مفاعيل صارمة ، نعمل ونأمل ، أن يعرف الإنسان يوماما ، ” سرها ” ، ولا أدري متى ، ولا خلاصاته عنها حينها . ومع ذلك ، لا خيار لي في وحشة اليتم والأسى إلا أن أناجي مغازي الذكريات التي جمعتني بكل منهم ، وبهم جمعيا ، فهي العزاء الوحيد الذي بقي لي منهم . وقد يكون غريبا ، أنه عندما يتم الفراق الأبدي ، تأخذ الذكريات في مخيلتك ، مباشرة ، أبعادها الرمزية التي لم تكن في الحياة العملية تظهر لك بنفس الحجم والقيمة النادرة.
” يتبع ”