قبل يومين، شاهدت شريط فيديو للباحث المغربي محمد عصيد، ينتقد فيه بشدة كتاب التربية الإسلامية المقرر للسنة الثالثة من التعليم الإعدادي، مشيرا إلى أنه فوجئ، عند الاشتغال مع ابنته على هذا الكتاب، واستاء من كون مؤلفي هذا الكتاب قد اختاروا البداية بالآيات الثمانية الأولى من سورة الحشر، نظرا لأنها تتكلم عن انتصار المسلمين على يهود بني النضير وجلائهم. وقد علل أحمد عصيد انفعاله إزاء هذا الأمر بكون مثل هذه الآيات تزرع الحقد وحب الانتقام في نفوس التلاميذ. بعد مشاهدة الفيديو، تجاوزت موقفي كأستاذة بكلية علوم التربية، وتخطيت قناعاتي كباحثة في قضايا التربية والتعليم، وغضضت الطرف عن تجربتي في التأليف المدرسي، فتوجهت فورا إلى الكتاب المعني، ومن عجيب الصدف أن ابني ذي 14 عاما يدرس في نفس المستوى، ويتابع دروس التربية الإسلامية في نفس المقرر المذكور. فتحت الصفحة المعنية، وناديت ابني سائلة إياه عما استفاده من هذا الدرس (درس سورة الحشر). أجابني بكل بساطة (أسرد هنا بالحرف تقريبا): استفدت ثلاثة أمور، أولها أن الظالم لا يفوز ولا يستمر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم له قيمة كبرى عند الله، وأننا يجب علينا تقسيم الثروات بالعدل، ومنح الأسبقية للفقراء والمساكين. سألتُه مجددا: هل أثار فيك هذا الدرس كراهية اليهود والحقد عليهم؟ نظر إلي وفي شفتيه ابتسامة استغراب: ولماذا سأكرههم، هذه قصة قديمة، وقد أخبرنا الأستاذ أن الهدف منها استنتاج مجموعة من الحِكَم…
بصراحة كانت تلك هي الأجوبة التي انتظرتها، خاصة عندما تمعنت في تصميم الدرس وفي محتوياته. أكثر من ذلك، وجدت أن اختيار هذا الدرس بالذات كان جرأة وقفزة نوعية من المؤلفين، فرسالتهم من ذلك تقول إن علينا تربية النشء على القراءة الدياكرونية للنص القرآني، أي قراءة تراعي فارق الزمان والمكان، وتأخذ بعين الاعتبار أسباب النزول. فالدرس الذي يمنح التلميذ إمكانات التفكُّر، ويعلمه قراءة النص بآليات للتمعن والتحليل، يعتبر في نظري درسا ناجحا. ثم إننا إذا كنا نردد أمام أبنائنا أن القرآن الكريم صالح لكل زمان ومكان، فلماذا سنضعهم، بعد ذلك، في تناقض مفاده أن بعض الأيات صالحة وبعضها الآخر غير صالح؟ إن الحل ليس في اجتزاء النص القرآني، وانتقاء بعضه وترك بعضه الآخر، بل لا بد من تجاوز القراءة السانكرونية السطحية المباشرة، وهي نفس القراءة التي أدت في عدد من الدول الإسلامية إلى ظهور التشدد الفكري والتطرف، وهي نفس القراءة التي قام بها أحمد عصيد لهذه الآيات، وهي القراءة ذاتها التي خلقت داعش والنصرة وأخواتها… المشكل ليس في النص القرآني، بقدر ما هو في عجزنا عن مواكبته بالقراءة والتحليل والاستدلال، والنظر إليه بأحدث الطرق التي يشتغل بها الفكر الإنساني اليوم في مختلف مجالات العلم والمعرفة. وإذا كان درس التربية الإسلامية آلية للرفع من قدر التحليل والاستنباط والفهم لدى التلاميذ، فمرحبا به.
لقد ربيت ابني، الذي منحني تلك الأجوبة، على تقدير الشأن الديني في الحياة، لكن ذلك لم يمنعه من أن يكون شابا ذكيا متفوقا في دراسته، يتكلم ثلاث لغات بطلاقة، ويناقش كل المواضيع معنا بحرية، من آخر اكتشافات البحث العلمي إلى القضايا النفسية والاجتماعية، بما فيها المعقدة المحرِجة…
د. ماجدولين النهيبي- خبيرة في التربية – كلية علوم التربية، جامعة محمد الخامس. الرباط