ساطع نزر الدين
أن تونس في سباق محموم على العودة الى الوراء، لا الى ما قبل ثورتها الرائدة، بل الى ما قبل قيام دولتها الراسخة، وربما الى ما قبل السياسة بأبسط قواعدها ومفاهيمها. كأن الاشقاء التوانسة يصرون على التنكر والتبرؤ بل حتى الاعتذار عن تجربتهم السياسية النموذجية، طوال السنوات العشر الماضية، ويقدمون مثالاً مشوهاً، مثيراً للحيرة والحزن، ينفي في الجوهر، وجود حلم تونسي، وعربي، بأن الديموقراطية يمكن إستيرادها وإستيعابها والاحتكام لها.
منذ شهرين ، ما عادت تونس تصدّر سوى الغرائب والعجائب السياسية، التي ليس لها أصل لا في كتب السياسة ولا في كتب التاريخ ومراجعهما، ولا في تجارب الشعوب والدول على إختلافها. وما عاد يمكن الاقتناع بأن التوانسة يحتاجون الى المزيد من الوقت لكي يطوروا تجربتهم الصعبة، التي تحتمل بعض التعثر والتراجع، بين الحين والآخر، قبل القفز الى الأمام بخطى ثابتة، راسخة، تعلن أخيراً أن بلادهم نجحت في تقديم أوراق إعتمادها الى العالم المعاصر. المشهد السوريالي الذي تقدمه تونس منذ نحو ستين يوماً هو مجرد سابقة عالمية، عصية الفهم. لا هو مشهد دكتاتوري خالص، ولا هو مشهد ديموقراطي عابر، ولا هو حتى خليط بين الاثنين، او محطة إنتقال نحو أحدهما، بعملية إصلاحية مزعومة، يقودها رئيس محدود المعرفة والكفاءة والخبرة، تسير خلفه غالبية شعبية محدودة الثقافة والوعي، شديدة الغضب على طبقة سياسية فارغة وفاسدة وفاقدة للشرعية.
لا يمكن ان يصنف الرئيس قيس سعيد بأنه دكتاتور تقليدي ينتمي الى فئة الطغاة الذين عرفتهم مختلف الشعوب على مر التاريخ. هو من صنف جديد تماماً. أفقده رشده التصويت الشعبي الطارىء، الذي جمع الليبراليين واليساريين والاسلاميين الناقمين على قياداتهم التقليدية في صندوق إنتخابي واحد. فأراد ان يكتب فصلاً مختلفاً من كتاب السياسة التونسية: النقمة تشكل تفويضاً كافياً وافياً لانقلاب مؤقت محدود الزمن، على الدستور، من خارج المؤسسات، أي من الفراغ الذي لا يسده سوى ما يخطر في بال الرئيس ذي الافق الضيق. الاصلاح السياسي مطلب شعبي لا شك فيه، لكن أحداً لا يعرف حتى الآن قنواته وشروطه وعناوينه.
سيشكل الرئيس لجنة، برئاسته طبعا، تعوّض ما فات على الذين كتبوا دستور العام 2014، وبذلوا جهدا إستثنائياً، حتى صاغوا واحداً من أرقى الدساتير العربية، بل العالمية.يود الرئيس ان يصبح هو المصلح للنظام السياسي التونسي الحديث، لكنه كان يكفيه ان يدعو الى إنتخابات مبكرة وتفعيل المحكمة الدستورية العليا، لكي يستحق هذا اللقب، ولكي يقود شعبه الى حقبة جديدة، من خلال صناديق الاقتراع، التي ثبت بما لا يدع مجالا للشك أنها سحر الديموقراطية وشرطها اللازم وخيارها الأمثل، في كل مكان، وكل ما عداها، غوغاء وفوضى، وإنفعالات شعبوية، لا تنهي الطبقة السياسية المكروهة والمدانة، بقدر ما تعطيها فرصة إضافية للبقاء، والثأر عندما يحين أي موعد سياسي، أي إنتخابات، مهما طال الزمن.
لم يقل الشعب التونسي كلمته بعد. عبر فقط عن الغضب حتى الآن. وهذا حق لا جدال فيه. لكنه في ذلك التعبير، لجأ الى أسوأ البدائل وأخطرها: الاعتماد على رجل واحد، لكي ينتقم له من الفاسدين والمفسدين، ولكي يحقق إصلاحاً سياسياً لا يقوى عليه، مهما بلغ من القوة والإرادة والعزيمة. كان، ولا يزال يمكن للتوانسة ان يختاروا أقصر وأسرع الطرق الى الاصلاح، من خلال تشكيل أحزاب ونقابات وتنظيمات جديدة، كان يمكنهم بالحد الادنى إطلاق وتكليف هيئات المجتمع المدني النشطة لكي تشارك في هذا الدور الانتقالي..
كان الأمل ولا يزال معقوداً على أن التوانسة الذين سئموا من برلمانهم المثير للسخرية وأحزابهم المثيرة للخجل، لن يساورهم الشك أبداً في قدسية العملية الديموقراطية، وفي قداسة المؤسسات الناجمة عنها..وفي الحق الذي لا يساوم في تنظيم التناوب على السلطة، وفي تحديد مواعيده حسب مشيئتهم الحرة، وفي إبقاء قنوات الاصلاح الدستوري والسياسي مفتوحة على الدوام، من دون الاعتماد على مزاج فرد، وعلى غضب شارع.. وكلاهما مؤقت وعابر.أي رسالة توجهها تونس اليوم، سوى أن الديمقراطية لا تصلح للعرب.
وهي رسالة مؤلمة جداً جداً، ليس فقط في بيروت، التي تشبه تونس في فساد سلطتها وخواء معارضتها، وضياع وجهتها.