آخر الأخبار

رسالة مفتوحة إلى المبدع عبد الرفيع جواهري وفاء واعترافا

* حميد منسوم

أيها الوثني في وطنيته والمتفرد بتعدده.
أيها البهيّ في قلوبنا: تحية مفعمة بمحبة لا يعتريها الصدأ.

يتعذر على إمكانياتي المتواضعة أن تحيط بمسارك قيمة وقامة، لأنك مصبّ يلتقي فيه الإنسان بالسياسي، والحقوقي بالإعلامي، والمثقف بالشاعر. ولكنني سأركب صهوة المغامرة وأطلق العنان لبوْحي فأقول:
كلما كان القلب أنقى كان السلوك أرقى. وتلك خصلة متأصلة فيك. تنهمر طيبوبة وتتدفق نبلا، نزيه حتى الثمالة، لطيف حد الإحراج، مترفع عن الصغائر. نصادفك دائما بوجه باشّ، وبابتسامة حريرية تؤمّمها على الجميع. آمنت بالإنسانية دينا للشرفاء، وعشت ولا زلت مستقيم الظهر وما عرضت قلمك في سوق الذمم.

كنت زاهدا في قمرة القيادة، ولكنها تأتي إليك كل مرة بسبق إصرار وترصد: في عضوية المكتب السياسي لحزبك، أو في المجال الحقوقي تأسيسا وتسييرا وطنيا ومحليا، أو في رئاستك لاتحاد كتاب المغرب.

وقبل أن ترتدي بدلة الترافع الواقف، تشكلت هويتك الإعلامية وأنت في مهْيَع الصبا تقريبا، حيث بدأت مشوارك في قسم التمثيل، لتنتقل بعده الى تقديم برامج إذاعية استضفت في بعضها الزعيم الفقيد علال الفاسي، وفقيد مدرسة الاقتصاد المغربي عزيز بلال، وفيلسوف الشخصانية محمد عزيز لحبابي …أما برنامجك (قبل الامتحان)، فقد شكل منارة بيداغوجية أتاحت لتلاميذ الثانويات الإعداد والتهييء القبلي للامتحان من خلال تنافس شريف حول تحصيلهم الدراسي.

وامتدادا لهذا المجال الإعلامي – وفي الصحافة الورقية تحديدا – كانت لك مساهمة وازنة وفعالة في خروج يومية (الأحداث المغربية) الى حيز الوجود. ولكن تفردك المائز تجسد في إطلالتك علينا من شرفة نافذتك ذات أربعاء من كل أسبوع، تدعونا – بسخاء حاتمي – الى وليمة من السعادة المؤلمة نلتهم فيها بشراهة أطباقا لذيذة من مآسينا، وبتوابل أصيلة من السخرية الهادفة، تكشط – ويا للمفارقة – ما علق بأرواحنا من تقشف في الفرح والابتسام.

أما في الشعر فقد كنت بلسما لشفاء أرواحنا وخاصة بقصائدك المغناة: القمر الأحمر، راحلة، ميعاد، رموش، قصة الأشواق، وهي قصائد زاخرة بشعر فاتن يتأرجح بين تطاوس اللحن وتسلطن الغناء وافتتان بالحب والطبيعة، لشاعر ظامئ للخصوبة يتعقبها في تباشير غيمة أو في ارتواء قلب أو تربة. ألست الصادح فينا:
وعلى المراعي مر يا خير
رش الخصوبة كثر الإغداق
ته في الحقول الخضر كالحلم
ته يا جميل فكلنا عشاق.

وقد كنت في هذه القصائد -المتأبية على النسيان – منظفا لآذاننا وذائقتنا بالكلمة شعرا ولحنا وغناء.
وازدادت القصائد ألقا بألحان خالدة للمرحوم عبد السلام عامر والفقيد سعيد الشرايبي وحميد بنبراهيم، وعبد الرفيق الشنقيطي، وحسن القدميري. كما تعملقَتْ بأصوات ذهبية وبلورية بعضها لن يتكرر: عبد الهادي بلخياط، والفقيد محمد الحياني، والفقيدة رجاء بلمليح، والمطربة كريمة الصقلي، وصاحبة أغنية (السفينة) المطربة فردوس.

وفي كلمتك الشعرية الملتزمة أنجبت لنا ديوان (وشم في الكف)، وقصائد (أطفال الحجارة)، و(باسْطا =كفى) …، دخلت من خلالها في مواجهة مفتوحة ضد القبح. ورغم منسوب التقريرية التي تطفو على سطح بعضها، وهيمنة معجم الشهادة والاستشهاد، إلا أنها حبرت بيراع لا يهدأ. يراع قدّ من أهداب عيونك وبحبر نازف من قلق على وطن، كان طموحنا فيه أن نصافح الحياة بألفة، وأن يمنحنا صدرا دافئا يحتضن محبتنا المقدسة.

لكن البعض ظن أن هذه الأحلام – على بساطتها – أكبر من هاماتنا، فكانت الفواتير مكلفة أعناقا وأرزاقا. وبما أنك وكل شرفاء الوطن قادمون من أمل ورحابة المستقبل، وبما أن قداسة الوطن أثمن من أرواحكم، فإنكم قررتم – وبتواطؤ جميل – أن نسمو بشموخ جماعي فوق جراح آلامنا، لنطوي صفحة ماض يخدش حياء ذاكرتنا،من فرط ما انزلق فوقها من دم ودمع وانين.

أما ديوانك (كأني أفيق) فأزعم بأنه مقطع من شريط سيرتك الذاتية. صعدت من خلاله معراجا روحيا عرفانيا تجلله لغة الكشف والمواجد والشهود وتستحضر فيه بشكل مضمر البعد العقدي للمغاربة حيث يلتئم الفقه والإرشاد بالذكر والإنشاد.

في حين أحدس أنك في ديوانك (الرابسوديا الزرقاء) أصبحت مؤمنا بأن الكتابة لا تتوسل بنبل قضاياها فقط بل بانحيازها الجمالي باعتباره شرط وجودها. لذلك ابتهج الديوان بالتناصّ وشعرية الاغتراب والمفارقة والتكثيف، حيث بدت على قوام قصائده حِمْية جمالية، باقتصاد تعبيري متوازن، وبدون تورم بلاغي. ألست القائل:
هذا دم فوق القميص
إنّ القميص قميصي
والذئب ذئبهم
يا حزن قلبي هل في البئر يوسف
أم ما في البئر غيرهم؟

صفوة القول: لقد شكلت أستاذي، هامة إبداعية في مشهدنا المغربي والعربي، آمنت بالشعر أميرا للقول وعيدا للكلمات، فروضته بتشبيهات لعوب وإيقاعات طروب وتناصّات دالة ومفارقات رامزة، واستعارات راقصة بغنج فوق حلبة التفرد. وكلها خصائص جعلتك شاعرا فردوسيا يرى الحياة بعين فنّان، وعقل حكيم، وإحساس عاشق وضمير إنسان، فتربعت على عرش البهاء متوجا بين مدينتين تزاحمتا في محبتك: مراكش وفاس بعد أن نهلت من معينهما هيبة التاريخ وعبق الحضارة.

أخيرا: أتمنى – بهذا المرور العابر – أن أكون موفقا في صرف ما تهاطل من زخات سيرتك وشعرك على تربة ذاكرتي، وبواحا بما اذخرته لك من حب ذهبي في بنك مشاعري. فعذرا إن قصرت، ولا شكر على واجب إن وفّيت.

* أستاذ 

المحكوم بالمؤبد في محبتك.